الفردانية وتحولات الأنثى الثقافية في رواية الفتاة ذات الصوت العالي .. بقلم د. كنان حسين

(إطلالة على الرواية النيجيرية المعاصرة)

للكاتبة النيجيرية "أبي داري"  DaréAbi

لاقت رواية "الفتاة ذات الصوت العالي"(2020) The Girl with the LoudingVoice  للكاتبة النيجيرية "أبي داري"DaréAbi، حفاوةً في الأوساط الثقافية والأدبية البريطانية، بفوزها بجائزة "باث" الدولية للروايات غير المنشورة، كما تم اختيارها في القائمة المختصرة لجائزة "ديزموندإليوت" لعام 2020، للأعمال الأدبية المكتوبة باللغة الإنجليزية، المنشورة لأول مرة في بريطانيا. ترصد "داري" في باكورة أعمالها معاناة المرأة النيجيرية في مواجهة التخلف والرجعية والعزلة الثقافية والاجتماعية، وحرمانها من حقها في التعبير عن ذاتها تحت السقف الثقافي ومحظوراته ومحرماته.

فالرواية، منذ عتبتها الأولى/ العنوان، تلوّح إلى غياب الفردانية (الفردية Individualism (في المجتمع النيجيري الذي يعكس من هذا المنظور، صورة كثير من المجتمعات التي لا صوت يعلو فيها على صوت العقل الجمعي collectiveness الرافض أي تصرف أو رأي لا يتناسب مع هوى المجتمع وقيمه ومواضعاته الاجتماعية الجامدة التي لا تقبل النسبية، استناداً إلى ما أسماه الفيلسوف وعالم الرياضيات البريطاني "برتراند راسل" (1872- 1970) "وصاياه العشر" عن مفهوم الليبرالية."The Liberal Decalogue". فعنوان الرواية يحيل على كسر النمطية وزعزعة المألوف، وهذا يتطلب الشجاعة، والثقة، وجرأة الاختلاف؛ لأن امتلاك صوت واضح متميز قد يكون المفتاح لمجتمع أفضل. من المنطلق ذاته، يُلحظ أن الفرد أكثر أهمية من المجتمع في الدول المتقدمة، مثل دول أمريكا الشمالية وأوروبا الغربية.

تأخذنا الرواية إلى نيجيريا الحديثة، ورحلة البطلة "أدوني" البالغة من العمر أربعة عشر عاماً، من قريتها الصغيرة "إيكاتي" إلى المدينة الكبيرة "لاغوس"؛ إذ يفتتح السرد وتبدأ الحكاية الروائية في الصباح الذي يبلغها فيه والدها أنها ستصبح الزوجة الثالثة لرجل كبير في السن ميسور الحال، من أجل إعالة أسرتها بعد وفاة أمها التي كانت تتكفل بأعباء الأسرة كاملة، في ظل الغياب الفعلي لدور الأب؛ إذ يقدّم السرد والد الساردة الممثَّلة "أدوني" بوصفه رجلاً سكّيراً قاسياً تركع الطفلة الصغيرة له ولمطالبه من دون أن ترفع بصرها إلى وجهه، وهو لا يؤمن بتعليم الأنثى، ولا يجد ضرورة له. خلافاً للأم التي تمثل أنموذج الأنثى الثقافية المتمردة التي لا تكتفي بالبحث عن خلاصها الفردي، بل تقود غيرها من الإناث لمعرفة حقوقهن وتساعدهن للحصول عليها. وقد دأب السرد على إبراز مهمتها التنويرية، ومنافحتها عن حق المرأة النيجيرية في التعليم، وقد أوصت ابنتها بمتابعة تعليمها مهما كلف الثمن، بوصفه طوق النجاة من واقع عايشته وخبرت ظلمه: "إن تعليمك هو صوتك يا طفلتي، وسوف يتحدث عنك حتى لو لم تفتحي فمك للحديث"(ص24).

فالحلقة السردية الأولى تبدأ بوضعية الفتاة الصغيرة في المنزل وقرار منعها من إكمال تعليمها وبيع طفولتها وبراءتها بتزويجها قسراً لرجل كبير متزوج باثنتين، وزجّها عزلاء في معترك الحياة الزوجية. ويأتي هذا الإعلان بمنزلة التمهيد للحلقة السردية الثانية التي يكشف السرد عن تفاصيلها لاحقاً. ثم يستعرض السرد عبر تقنية الاسترجاع flashback أولى محطات تمرد البطلة على واقع التجهيل والتهميش، بإصرارها الشاق والذكي على مواصلة الدرب، واختراق حواجز السلطة الاجتماعية والثقافية، وتحقيق الحلم في أن تصبح معلمة. فتقول: "حين أخبرني أبي بقرار إيقاف تعليمي؛ لعدم قدرته على دفع نفقات الدراسة.. منذ ذلك الحين، وكي لا أنسى ما تعلمته، بدأت أعلّم الصبية والفتيات الصغيرات في القرية في أيام السوق...أحب أن أرى عيونهم دائماً مشرقة جداً، وأصواتهم حادة جداً"(ص20).

وبذلك فإن الحافز السردي الرئيس في الرواية/ حافز التعليم، يضع البطلة على مسار تصادمي في قرية تتزوج فيها الفتاة مبكراً، وتتفرغ للإنجاب والاعتناء بالرجل. ففي حفل زفافها، تبكي البطلة من قسوة واقعها، وسط فرح الجميع من حولها. وتبدأ الحلقة السردية الثانية، ويندفع السرد نحو الأمام، ويكتسب شيئاً من التوتر الذي يغذي حافز البطلة في تغيير واقعها جذرياً، بتوالي ضروب العبودية في منزل زوجها، الذي يقدم على اغتصابها، وتعتدي زوجته الأولى عليها بالضرب المبرح. ويكشف السرد ازدياد وعي البطلة الثقافي وصور تمردها ضد واقعها الأبوي، بتناولها شراب العقم لتجنب الحمل، والإفلات من قبضة الزواج المدمّر. وعلى الرغم من الإساءة والإهمال والضغوطات المتلاحقة، تظهر قدرة لافتة على الحفاظ على السلام والتوازن الداخلي، والتفكير المتأني بطريق الخلاص. 

وربما يمكن القول إن أحد أوجه القصور الحقيقية في الرواية الحبكة شبه المتوقعة. فأفق التوقع واضح، والسرد يكاد لا يفاجئ القارئ، فهو يلتزم الارتفاع والانخفاض على مستوى الحدث بتناوب مستقر. فما أن يصعد عبر توتر ما، سَرْعان ما يتلاشى هذا التوتر، ويألف القارئ حرارة العرض، ويبدأ التمهيد لحلقة سردية جديدة. وبالفعل بعد أسابيع قليلة من زواج البطلة، تجد وسيلة للهروب من قريتها، على أمل إيجاد مستقبل أفضل في مدينة "لاغوس" الكبيرة المزدحمة. وبدلاً من ذلك، ينتهي بها المطاف خادمة في أسرة سيئة؛ لتجد أن الحياة في المدينة أمرٌ خطيرٌ. وتبدأ حلقة سردية جديدة، وفصل جديد من العبودية المنزلية الحافلة بالعنف الجسدي من سيدة المنزل، والاعتداء الجنسي من زوجها، في دوائر مشابهة لتلك التي مرت بنا في المنزل السابق، فضلاً عن أن التوترات المصاحبة لهذه الحلقة السردية لا تضيف جديداً إلى سابقتها، سوى أنها ترفد حافز التعليم عند البطلة، من حيث انعكاس تأزم البطلة اجتماعياً على إصرارها ومضيّها فيما تصبو إليه. وهذا ما يبرزه السرد بوضوح، بالإشارة إلى السلام الذي كانت تجده البطلة في قراءة الكتب سراً في مكتبة المنزل: "في الصباح، كنت أمسح نافذة المطبخ من الخارج، عندما سمعت صوت سيارة السيدة الكبيرة وهي تسير... أخذت قماش التنظيف بسرعة، ومررت بجانب المنزل، ودخلت المكتبة، وأغلقت الباب. أخذت نفساً طويلاً... وشرعت أمسك الكتب واحداً تلو الآخر... أحاول قراءتها في أثناء مسحها..لا يمكنني القراءة بصوت عالٍ خوفاً من سيدة المنزل.. تحدثت من داخل أنفاسي" (ص١٣٤، ١٣٥).

إخضاع الأنثى جسدياً وجنسياً ثيمة رئيسة في رواية "الفتاة ذات الصوت العالي"، والكاتبة "داري" تلتقط بمهارة الصراعات الطبقية والجندرية الموجودة في نيجيريا. فكثيراً ما تقع البطلة "أدوني" ضحية الرجال الأقوياء في حياتها: والدها يتاجر بها بالمال، وزوجها يعتدي عليها، وسيدها في المنزل يمثل تهديداً مستمراً، بألوان العنف البدني والنفسي على حد سواء. فالتعليم إذاً هو المهرب الوحيد، والخيوط الحكائية كلها تتشابك عنده. والرواية لا تصدم القارئ ولا تكسر أفق التوقع فيما يتعلق بالثيمة الأهم والأكثر حضوراً؛ إذ تفوز البطلة في نهاية الرواية بمنحة دراسية لخادمات المنازل النيجيريات الشابات اللواتي يرغبن في الحصول على التعليم، تعبّر عنها إحدى شخصيات الرواية بأنها "فرصة نادرة لنيل الحرية، من الأفضل الاستفادة منها والهرب" (ص٢٨٤).

الأنثى السردية بتمثيلاتها الثقافية في رواية "الفتاة ذات الصوت العالي"، هي ناتج طبيعي للمعطى الاجتماعي المفروض في المجتمع النيجيري. وهي ترفض الخضوع للصورة النمطية للأنثى المسحوقة، وتنتفض عن طريق خلق الظروف المناسبة لمثل هذه الانتفاضة على الثقافة السائدة. وتأتي خطورة هذه الانتفاضة من الفردانية. فالبطلة تشق لنفسها طريقاً مغايراً محفوفاً بالمخاطر، تواجه فيه محاولات المجتمع لتهميشها وإبقائها مغلوبة على أمرها، وصولاً إلى تحقيق وجودها الإنساني وكينونتها، من خلال ثقافة العمل والتعليم. فهي لم تستسلم لشروط العرف الاجتماعي، الهادفة إلى تعطيل إرادتها وتفريغ وعيها عبر الزواج المبكر الذي يحيل على الانكفاء الكلي على المشاغل الزوجية، والبقاء في حاجة دائمة إلى حماية الذكر، والاكتفاء بما يلقنه المجتمع من تعاليم وطقوس. والسرد إذاً يحيل على فسحة أمل مقترنة بنور العلم؛ لتحقيق انتفاضة المرأة النيجيرية، وانتشالها من أشكال العبودية كلها، من خلال شحنها بنوازع التمرد والثورة على الذهنية الذكورية، واتخاذها طريقاً مغايراً تشقه بنفسها، غير ذلك الذي رسمه لها المجتمع الساعي إلى تكريس صورة قاتمة متخلفة لها. تقول البطلة تعبيراً عن امتنانها للعلم وتفاؤلها بالثورة الموعودة: "دخلت مكتبة منزل سيدتي، وأخذت أشكر الكتب الموجودة على الرف كلها.. شكراً لك.. لمساعدتي في العثور على حريتي في سجن منزل سيدتي. بقيت هكذا لحظة، هادئةً وساكنةً أنظر إلى رف الكتب... أتذكر قبر أمي... هذه المرة فقط يختلط حزني بالفرح ...وأشعر بانعتاق دافئ بداخلي، فقد حان وقت الذهاب"(ص٢٨٥).

 تؤمن البطلة "أدوني" بأن العلم هو الطريق الذي يجب أن تسلكه، وخلاصها يكمن في القراءة؛ لتزداد وعياً بمحيطها الاجتماعي، ومن ثمّ تزداد ثقتها بنفسها في علاقتها بالآخر، وتكتسب الآليات المناسبة للدفاع عن نفسها، وللتحولات الكبرى في حياتها. وهي فرصة من شأنها إنقاذ البطلة، ونقلها من وضعها المأساوي إلى مستقبل مشرق، عبر رحلة معرفة ذاتية هائلة وملهمة للفتيات الأخريات، لانعتاقهنّ من زنزانة الثقافة المهيمنة على عقولهنّ، والذهنية الأبوية الجمعية التي تتحكم بمصائرهنّ: "الغد سيكون أفضل من اليوم ... عندما يمكنني زيارة قريتي "إيكاتي" من دون خوف... سيأتي يوم يكون فيه صوتي مرتفعاً جداً في جميع أنحاء نيجيريا والعالم، عندما أكون قادرةً على إفساح الطريق للفتيات الأخريات، ليجدن صوتهنّ العالي؛ لأنني أعلم أنه عندما أنهي تعليمي، سأجد طريقة لمساعدتهنّ على الذهاب إلى المدرسة.. سيأتي يوم أصبح فيه معلّمة" (ص٢٨٦، ٢٨٧).

فالرسالة التي تنقلها الكاتبة في روايتها تتلخّص في كلمات الزعيم الأفريقي "نيلسون مانديلا": "التعليم هو أقوى سلاح يمكنك استخدامه لتغيير العالم". ولكن تجدر الإشارة إلى أن التعليم ليس في متناول الجميع. من هنا كان لزاماً على البطلة في رواية "الفتاة ذات الصوت العالي" الحصول على تعليمها؛ ليكون لها "صوتها العالي"، الذي يجد طريقه إلى الآذان والعقول والقلوب.