آخر الأخبار

أن تُردم حياً، عن فيلم "مولود في غزة"

ستشاهد وثائقي "مولود في غزة"، للمخرج الأرجنتيني إرنان زين، مرتين وثلاث وأربع، لتعاودك وجوه أبطاله الأطفال، وتنغمس كل مرة كأنها الأولى في عوالمهم المجروحة. الوثائقي مشبع بقصص مؤسية، ببؤس، شقاء، تعب، حزن، إرهاق نفسي وعلامات واضحة لا يخطئها أي تشخيص مبتدئ لاضطراب ما بعد الصدمة. وجوه مهدودة، لمدينة ينسحب خرابها المعماري على سكانها أرواحاً وأجساداً. يصرخ أثر الخراب والدمار والظلم والعوز من تحت الملامح. صراخ مكتوم. بلا صوت. مثل ذاك الصراخ الذي يخنقك غيابه في الكوابيس. 

أنت تعرف القصص كلها. كلها بلا استثناء. قصص تناولها الإعلام، وتكررت على سمعك وبصرك ومخيلتك على هيئة أخبار وأرقام وحقائق. إلا أن أطفال "مولود في غزة" يضعونك وجهاً لوجه مع خساراتهم. مع وجعهم الذي لا ينقله شيء. مع التفاصيل التي لا تلتقطها كاميرا صدف أن تواجدت ونالت السبق من تصوير الحدث الذي نال من كل منهم ونال من حياته ونفسيته وحاضره وماضيه ومستقبله، من عالمه. النظرات التائهة، والدمع الهارب، وتوتر حركات الأصابع المشتتة لا يدركه إلا من اختبر صدمة الفقد. يركز الفيلم بالأساس على أطفال كسر الفقد مسار حياتهم إلى لا عودة. الفقد بأبشع ترجماته، وأعمقها وجعاً. فقد بتفاصيل لا تخطر لمتلقي الأخبار على بال. إحدى الطفلات أبطال الفيلم، تستعيد وعيها خلال انتشالها من تحت أنقاض بيتها، لحظة يسقط القصف كلى والديها ويحولها  دون سابق إنذار، إلى طفلة يتيمة الأبوين ومصابة بالرأس. لحظة الانتشال، تطلب الطفلة الماء البارد بهستيريا غير مبررة. يهاجمها العطش في لحظة غريزية لا ينوي الدماغ فيها أن يرى أو يستقبل أي معلومة مما حدث، ويركز كل التركيز على الماء البارد، والبارد جداً! 

الأطفال الأربعة الذين نجوا من قصف استهدفهم وأبناء عمومتهم فيما كانوا يلعبون كرة القدم على الشاطئ، لم تأت الأخبار لهم على ذكر، وركزت على الأربعة الآخرين الذين فقدوا أرواحهم جراء القصف. حمل الأربعة الناجون وزر نجاتهم الثقيل، وانخسافهم من ثمانية إلى أربعة في غمضة عين. أحد الأربعة الناجين، ويمكنك أن ترى آثار اضطراب ما بعد الصدمة في كل تفصيلة في وجهه ووجوه الثلاثة الآخرين وحركات ولغة أجسادهم الصغيرة، يذكر فيما يخبر الكاميرا بما حدث معه بعدها،  أنه لا يعرف كيف يكمل حياته. أنه لم يعد يريد أن يبقى في الحياة . لا يفهم أصلا لماذا بقي حياً، وكيف أنه حاول رمي نفسه من البلكونة، لولا أن أمسكته أخته. جملة يقولها طفل في التاسعة من عمره على الأكثر، إذ يشرح كيف وجد نفسه يختار أن يلفظ الحياة قبل أن تلفظه.  

الأطفال في واجهة قصص الفيلم، إلا أنك ترى الكبار خلفهم. أشباح مهزومة ومنهكة لأرواح مطفأة. صيادون لم يعودا قادرين على الصيد بعد صدمة فقد أطفالهم.عمال لم يعودوا قادرين على العمل. عيون محمرة مفنجلة شاردة ومتوترة في أجساد مهترئة، ومهدمة. تشعر وكأنك علقت في لحظة لوحة "الصرخة" لإدڤارد مونك. صرخة طويلة منهكة لا تنتهي، إلا أنها موغلة في الصمت. ثمة ما يخنقك كمشاهد في كل قطعة ردم، وفي كل تجعيدة وجه وكل تفصيلة وجع أجبرت على أن تصبح "عادية". كأن الركام الذي يعيش فيه كل منهم امتداد لما تهدم وانقصف وتشظى داخله. يدلك الأطفال على جروحهم، على تشوهاتهم وعلى أمكنة الشظايا التي سكنت أجسادهم الصغيرة. يحملون أثر الإصابة داخلهم حرفياً ومجازياً في الوقت عينه. 

تمشي الكاميرا بتصوير جوي فوق المناطق المدمرة. يهاجمك الردم بعيون ساهمة.تنسحق، أنت المشاهد ولا تجد مدخلا ً تربط عبره بين ما ترى وما تفهم وما غذته لك الأخبار وبين الصدمة. صدمة أن تُردم حياً.