قراءة في ديوان الشاعرة فداء البعيني "يدك التي تملؤني قمحاً" بقلم الناقد والشاعر نصير الشيخ

حقول القمح وبذارالكتابة..

قراءة في المجموعة الشعرية " يدك التي تملؤني قمحا"

للشاعرة السورية " فداء البعيني"

ــ ترى عند الكتابة الشعرية ما هي توصلاتنا للبحث عن سركينونة الشعر،منطلقين من كونه معني بالعاطفة البشرية.ذلك لإحتفاظه الكلي  بحضوره الزمني تاريخيا/ نفسيا،وبما يمده عميقا للحفاظ على جذوة التعبيرالإنساني بأبهى صوره وبما يرسم له خلوده النوعي.كل ذلك لإمتلاكه هذا البعد الروحي والذي يتوالد على الدوام كأجراس تعيد نغم الحياة والحب واغنية الوجود.

فداء البعيني، شاعرة سورية تمد مجساتها الينا عبر مجموعتها الشعرية " يدكَ التي تملؤني قمحاً" الصادرة عن مؤسسة ابجد بطبعتها الأولى عام 2022. لتكشف لنا عبر نصوصها وعيها الحاضر،ومسائلة وجودها الآني والذي من خلاله تحقق وجودها الشعري.ومدخلا لعالمها النصي في هذه المجموعة تحضر بين يدينا معادلة الحقل والبيدر،ذلك ان مايبذر وما يزرع ومايحصد وما يتم خزنه في الصوامع،كل هذا تقوم به " اليد" هي الآلةُ المستفيقة على نبض الروح واعمال الفكر، لمزاولة الخلق والإبتكاروصناعة الأشياء. و" يدك التي تملؤني قمحاً" معادلة شعورية وانسانية إجادت بذارها "فداء البعيني" كمدونة كتابية حيث تأخذنا ومنذ الإهداء الى التماهي مع عناصر الطبيعة لخلق تصورات شعرية للمتلقي ومن ثم بناء معمارها النصي .

(( الى الريح التي عدلت بين يدي/ يد من قمح ويد من تراب

   الى الروح التي دخلت بين اضلعي من نوافذ الرحمن/

  فطيرت عصافير الكلام)).ص4

ــ في نصها " لاقشة تكسرني" تستجلب الشاعرة رموزا ببعدها التاريخي والديني، لتكشف لنا اعتدادها الذاتي ووجودها الماثل أمام الآخر الغائب، في معادلة صورية تحضر فيها رموز( القارب/ الأسماك/ الحمامْ/ نوح/ اليابسة) ..وكأنها تعيد تدوير حكاية الخليقة وطوفانها، ومن ثم اعادة صياغتها على ذاتها الشاعرة، فهي الأرض المغطاة بالطين، طين قابل للأنباتِ واعادة بعث الربيع كل عام. لكن التجربة برمتها تخذلها المواقيت من وجهة نظر الشاعرة، فهناك خوف ينتابها، إلا تكتشف أرضا صالحة للحب!!

من هنا تم استعادة قصة الخليقة برموزها المبثوثة في النص، وهاهي يدها الغافلة ترسل حمامها مثل نوح بأنتظار عودته ــ اي الحمام ــ لئلا تجد ان من سعت لأجله من وجود جديد وعالم جديد هو محض هباء، ولا يابسة تستقر عليها، وان كل محاولاتها لإثبات أرض جديدة هو " هذيان"..

ــ تستكمل الشاعرة فداء البعيني جدلية الإثبات والنفي في حوارها مع الآخر، وكأنها هنا حواء تحضرفي مكان اخر لأرض بكرٍ، تقف متسائلة أما دهشة السماء تارة وامام مرآةِ روحه تارة اخرى،وامام الآخر بكل تقلباتهِ تاراتٍ أخرى.... حاضراً وغائباً.وهذا ماتحقق في سياق نصها الشعري " ورقي لم يذقْ حبرك بعد" وهي تعيد سؤال الأنوثة الحاضرة والممتدة بعمقها التاريخي والرمزي وحضورها في " أساطيرعشق الأولين".

الآخر يحضر هنا " آدم" في الطرف الآخر من الأرض،والذات الشاعرة تحضر هنا "حواء" في طرفها الثاني، والسؤال يأخذ مدى الجدل الفلسفي بكيفية النشوء على هذه الأرض، ذلك ما توافرت فيه عناصرمنبعثة من الوجود البشري برمته :

  (( لم نغنِ أغنيتنا بعدُ، ولم نعزف لحنها

     إذا كيف نفسرُ حصاد الناياتِ في حقول أنفسنا؟

     لم نولد بعد..

     لا انا من صلبك ولا أرضعتك

     لماذا إذا ما تحسستُ مكان سرتي

     نما منها حبلٌ لاأراهُ..

     أشدهُ لتنتشي أنت..؟ ص12

ــ يرى الناقد د.حاتم الصكر في نصيصه هذا (( لكن كثيرا من شعراء قصيدة النثر العرب لا يولون الدلالة اهتماما مناسبا،فتدور نصوصهم في فراغ دلالي،وفقر في التعيين المعنوي المتوسع الذي تعمقه الدلالة، فهي ليست المعنى المنكشف الذي هجرته الحداثة بدعوى مجافاة المباشرة والسطحية، ولكنها استراتيجية نصية تنبني على صلة الشاعر بالعالم وؤياه للحياة وموقفه من المجتمع والمؤسسسات المنظمة لحياته،والأيدلوجيات السائدة وقضايا الحرية التي تؤطرالحياة وتشكل مفرداتها)).2

فداء البعيني في مجموعتها " يدك التي تملؤني قمحا" تغني بلغة صافية منبعها التعبير الجواني لصوت المرأة، ذي النغمة المرتفعة،عبر نصوص تتوالد على شكل " ديالوج" منبعث وكأنه في حوار مع كل مايحيطه، لكن الأكثر تأثيرا والأبلغ حضورا هو كيان الآخر" الرجل" بكل مواصفاته ، من هنا يأخذ معها وبها شكل الحوارحد الجدل حاضراً أم غائباً،متجسداً بشراً، أم كونه ذكرى غابرة ...

    (( تعال الي حافيا/ وسلم..

      الماء أرضكَ فأمضِ الى قصرٍلكَ

      غزلته من قطن الغيم / على جبل الريح.

       تعالَ وعرجْ/ لاتفتدِ بي حلماً

      فنذورك لاتنجيها سكين إبراهيم )). نص خلاص ص20.

ـــ منذ الصفحة 55 من المجموعة الشعرية،تأخذ النصوص بالأختزال التعبيري والتكثيف اللغوي، وتكاد لغة الشاعرة تضيق بمسارها وصولا لترسيم صور شعرية مكتفية بذاتها. صور تأخذ من شفافية اللغة صفة " التهجدات" في مراوحة شعرية للدخول الى محراب الحبيب/ المعشوق/ الآخر...هذه التهجدات تحضرُ وصفاً وتلميحا عبر دفقات شعورية عالية التوهج حينا، ومنطفئة الوهج حينا اخر تدخل اللغة المباشرة في تكوينها النصي..!! والتي تتأرجح بين قوة الكلمات كمصفوفة كتابية في مقطع ما، وتعبير مجاني لايستوفي غرضه الفني والجمالي في آخر....ذلكم ما يشدها للكتابة هذا الزخم الشعوري وربما غير المسيطر عليه، في سياقها عبر التعبير عن الحالة المعاشة للذات الشاعرة في مواجهة محتدمة مع " الآخر" . أم عبر استدعاءات الذاكرة وخزينها الذاكراتي وهي تنسفح عند حافات الواقع،المنسكبة تدوينا نصياً.

& يدك التي تملؤني قمحاً / شعر/ مؤسسة أبجد للترجمة والنشر والتوزيع

    ط1/ 2022/ 105 قطع متوسط.

ــ حاتم الصكر/ الثمرة المحرمة ــ شبكة اطياف الثقافية/ الرباط ــ المغرب.

     ط1 2018