ما بين الفوضى والديمقراطية الشئ الكثير!

إمتلأت المواقع الإلكترونية وصفحات التواصل الإجتماعي بالإنتقاد للطريقة التي تم فيها إخلاء وسط العاصمة الكندية أوتاوا من المحتجين الذين مكثوا فيها ما يزيد عن ثلاثة أسابيع متواصلة، ارهقت سكان المنطقة وأصحاب الأعمال الذين يعتاشون من أعمالهم في تلك المنطقة .

هنا لا أجد غرابة أن تصدر مثل هذه الإنتقادات خاصة ممن يعيشون في دول ديكتاتورية ولا ينعموا بما تكفله الديمقرطية المكفولة بالقانون وليس الفوضى التي تريد أن تكون فوق القانون، حيث أن كندا معروف عنها أنها رائدة في دعمها لحقوق الإنسان وهي راعية لحرية الرأي والتعبير قولاً وفعلاً وليس إدعاءً كما يراها أمثال هؤلاء المنتقدين.

لكن ما شاهدناه من فوضى  لم يكن يحتمل هذه المفاهيم،  حيث أننا إنتقلنا من مرحلة الممارسات المكفولة دستورياً كحقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير إلى ما هو أبعد من ذلك بكثير والذي لم يكن ليوصف إلا بالفوضى ، وهذا بالتأكيد كان يستدعي إجراءات قانونية صارمة للحفاظ على الحالة برمتها وتعديل مسارها لتصبح لائقة بما يليق  بأهدافها المعلنة وليس ما تطورت إليه الأفعال الناجمة عنها.

لذلك بالرغم من تدخل الأجهزة الأمنية لبسط سيطرتها على العاصمة الكندية التي تمثل رمز السيادة الوطنية لا بل تمثل الهيبة والكرامة للبلد ، إلا أننا لاحظنا بأن رجالات الشرطة كانوا يمارسون اقصى درجات ضبط النفس ، وكانوا صبورين للغاية مقارنة مع ما شاهدناه في أحداث مماثلة في دول أخرى وهذا ما أثار إستغراب الكثيرين من رواد السوشيال ميديا أيضاً.

هذا لا يعني بأننا مع سياسة القمع ، ولكننا بالتأكيد نتفهم ضروريات التدخل بهذه الطريقة التي إعتبرها البعض خشنة وعدوانية بالرغم من أنه لم ينجم عنها أي إصابات أو خسائر بالأرواح،  خاصة بأن الأمر لم يكن يقتصر على التظاهر والإحتجاج والتعبير عن الرأي فقط،  وإنما بات يمس الأمن القومي مباشرة على ما يبدو بأنه كان هناك محاولة للمساس بهيبة رجل الأمن .

 حيث كان هناك الشتائم غير اللائقة وكانت هناك الخسائر الإقتصادية الفادحة،   التي ترتبت على ذلك  والتي لا تتناسب بالمطلق مع التحديات في هذه المرحلة الحساسة،  التي لا زالت ترضخ تحت تأثير تحديات الوباء،  وما نجم عنها من إرهاق شديد لميزانية الدولة، التي عملت بكل قوة من أجل توفير  إمكانيات مواجهة هذه التحديات الكبيرة.

أيضاً لربما كان غائباً عن البعض ممن وجهوا سهام إنتقاداتهم للديمقراطية الكندية، ومتناسين بأن هناك تحديات أمنية وظروف معقدة إقليمية ودولية تحظى بأولوية بالغة وتحتاج لصرامة في تأمين الساحة الداخلية حتى لا يتم إستنزاف الجهود في أمور جانبية من الممكن أن يتم حلها بالحوار  البناء والنقاش والإحتواء، وبالتالي لا تؤثر  بالسلب على القدرة على مواجهة مثل هذه التحديات الكبيرة.

إننا اليوم أمام مشهد تولد عنه بدون أدنى شك، عِبَرٍ  ودروس، أتمنى أن تكون إيجابية وجامعة،  وموحدة لكل مكونات المجتمع وطاقاته الإبداعية،  لا أن يتم إستغلال ما نتج عن ذلك من نتائج بطريقة غير موفقة، وبالتالي تخلق أزمات وتعمق الفجوات.

لذلك في تقديري أنه من الذكاء أيضاً عدم الإلتفات للإنتقادات لديمقراطية بلادنا العظيمة التي نعرفها ونعتز  بها حتى لا تخلق لدينا تخوفات من وهم لا وجود له،  وأن نتجاهل غيرها من السخافات الجانبية والرخيصة ، لكي نعرف جيداً ما نحن بحاجة إليه من لفتات جدية وعميقة لأزمات تحتاج إلى تركيز وتظافر الجهود لإيجاد حلول جذرية وجوهرية لها ليس على المدى القريب فقط وإنما على المدى البعيد أيضاً.

هنا لا يسعني إلى أن اؤكد على أن كندا هي من الدول القليلة في العالم، ولربما الرائدة بالعمل على مشاركة المجتمع بصناعة السياسات والقرارات التي تهم الشأن العام، ولربما سياسة البلد برمتها ، وبذلك من حقها أن تحافظ على ديمقراطيتها بالطريقة التي تراها مناسبة بما يسمح به القانون لحفظ كرامتها وهيبتها.

أخيراً ، كندا ستبقى عظيمة ، ورائدة في الديمقراطية وراعية لحقوق الإنسان وتكفل بلا شك حرية الرأي والتعبير ولكن ضمن الأصول والمنطق، وليس ضمن الرؤية الضيقة   أو بالقبول بالفوضى والتخريب!.