الفيلسوف للقاص رائد حلاوة

الفيلسوف

وأمّا الفيلسوف، هذا الرجل الذي شارف على عقده الخامس، كان أكبر الشلّة سنًا، والأعمقهم نضجًا ووعيًا، والأكثرهم خبرةً ودرايةً بضروب الحياة وفصولها وتقلّباتها. لقد كان ذا هيئة مهيبة وقورة تليق بسحنته الهادئة والسمحة، وبشعره ولحيته الأبيضَين اللذين اكتسحهما الشَيب، وبما كان يتصّف به من دماثة خلق وهدوء طباع، وما كان يُعرف عنه من اعتدالِ رأيٍ ونفاذ فكر. ولقد انعكست فيه هذه الصفات انعكاسًا صريحًا صادقًا من خلال أدائه وتفانيه في ممارساته اليومية والعملية والحياتية. أمّا أبرز سمات سيماء وجهه فقد تجلّت في عينيه التي اتّسمت بنظرة هادئة، عميقة وحارة، نظرة كان يسبر من خلالها كل شيء ليحتويه دفئًا ورقّة وحنانا. ولا بدّ من أن أشير أيضًا إلى أعجب ما أتت عليه طبائعه من غرائب، من خلال بعض المواقف المتكرّرة التي لا يسعني أن أتغافل عنها، وتحديدًا حينما كان يأنس في نفسه أن يجالسنا لساعة كاملة في صمتٍ مريبٍ غير مفهوم، دون أن يتشارك معنا أطراف الحديث، في صمتٍ قد يتبدّى لعين الغريب كما لو أنّ خصامًا ما كان قد حلّ بيننا، فأدّى به إلى الإنزواء والسكوت المبهم. وعدا ذلك، كان لا كثير الكلام ولا قليله، لكأنّ لسانه عدّادٌ مضبوطٌ على الكلمة اللازمة التي أبت أن تُنطَق إلّا في محلّها الصحيح والموزون، فإذا ما كانت هناك ضرورة للكلام فهذا يعني أنّ لا كلام بالمرّة، وإذا ما كان هناك داعٍ إلى الإستفاضة استرسل من تلقاء ذاته بأسلوبه الأخّاذ والساحر، من غير أن يشعرك بجريان الزمن، أو بأيّما إزعاجٍ أو ملل. وإلى هذا، فقد استطاع في الوقت نفسه أن يحافظ على هيئة الشباب لا في مظهره الخارجي فحسب، ولا في طريقة انتقائه لملابسه التي دائمًا ما كانت تتناسب والموضة، ولا حتّى في حركاته السريعة والرشيقة والأنيقة. بل لقد حافظ أيضًا على هيئة التجدّد في عقله وذهنه المتّقدَين المتأهّبَين دائمًا لإطلاق أفكاره الخاصة، أفكاره الخلّاقة، الأصيلة، اللّامعة والمبهرة. والتي عادةً ما تتّصف بطابع الحداثة والفرادة والغرابة، بحيث أنّها غالبًا ما أتَت مواكبة لروح هذا العصر، حتّى أنّ بعضًا من آرائه وأفكاره كانت قد سبقت هذا العصر بقرونٍ بعيدة، لكأنّها كانت تخاطب أجيالًا انتمت إلى زمنٍ آخر تقدّم على زمننا هذا بأشواط كبيرة. فكان يتّفق له من حينٍ إلى آخر أن يردّد في ما بينه وبين نفسه، آسفًا هامسًا، عبارات كنّا قد حفظناها عن ظهر غيب لكثرة تكرارها. فكنّا إذا ما خلصنا من النقاشِ في إحدى المواضيع المثيرة والحسّاسة، وأعني منها النقاشات المبلبلة والمدوّخة للرؤوس، والتي دائمًا ما كانت تُثار في بعض الجلسات الخاصة. أقول، إذا ما نحن أنهينا النقاش من دون أن يتمخّض عن أيّة أفكار مشتركة أو عن أيّ تقارب في وجهات النظر - ذلك أنّه يستحيل علينا في بعض المرّات أن نؤيّد له نظريّة من نظريّاته الجهنّمية والمريبة - كان يستسلم من فوره، فيرفع رأسه متوجّهًا إلى السماء، متنهّدًا بكلّ أسى، باحثًا في الأعالي عن من يناجيه، عن من يبدّد عنه هذه الحيرة، مردّدًا العبارات نفسها التي لم ولن يحصل لها يومًا على جواب، فيأخذ يتحسّر ويسأل:

أنَّى للإنسان أن يعيش وفي عقله أفكارًا ورؤى لن تتحقّق إلّا بعد مُضيّ ألف عام، وودّ لو أنّها تحقّقت منذ اليوم، أنَّى لمثل هذا الإنسان أن يعيش؟!