آخر الأخبار

في ظل غياب القدوة.. بوصلة تائهة وأجيال ضائعة

عندما يتصدر المشهد الجاهل ما الذي بالإمكان توقعه؟! ... كنت في زيارة لأحد الأماكن وهناك دار حديث بيني وبين أحد الأطراف المتواجدة في ذلك المكان ، وإذ بالنقاش يتطرق لكلمة القدوة وكيف أثر غيابها سلباً على القيم المجتمعية وحتى على الحالة الأسرية وتماسكها.
لذلك وجدت ضالتي في كتابة موضوع هذا العدد وكأن هذه الكلمة سحرت فكري وأيقظت شيئاً كان لربما غائب عني بالرغم من أنني أؤمن بأن كثير من المشكلات الأسرية والمجتمعية أساسها هو غياب القدوة.
حيث أن القدوة يجب أن تعمل على تحقيق ما تريده من الآخرين في نفسها أولاً، فمن غير المعقول إصلاح الشخص لغيره وهو فاسدٌ متبعٌ لأهوائه غير منضبطٍ، فعليه أن يتابع نفسه على الدوام فيراقبها ويقوّم اعوجاجها، ويعيدها للصراط المستقيم كلما شردت إيماناً وإحتساباً وقناعة، فبصلاح النيّة وإخلاصها يَصلُح العمل وينجح. 
والقدوة هي عبارة عن الشخص والمثال الأعلى الذي يُقتدى به والنموذج المثالي في تصرّفاته وأفعاله وسلوكه، بحيث يُطابق قوله عمله ويُصدّقه، ويكون القدوة بالنسبة لمتابعيه مثالاً سامياً وراقياً، فيعملون على تقليده وتطبيق نهجه والحذو حذوه، حيث ينبع تقليدهم إياه من قناعاتهم الشخصية وبكامل إرادتهم.
 والهدف من اتباع القدوة هو الرقي لأعلى مستوى من الأخلاق والتعامل والإرتقاء بالعلم والمعرفة وشق طريق الحياة بما يكفل السير في الطريق الآمن والسليم. 
فالأباء قدوة لأبنائهم عندما يقومون بواجباتهم على أكمل وجه، والمعلمين قدوة لتلاميذهم عندما يقومون بتطبيق ما يعلمونه لهم، والسياسين قدوة لأفراد المجتمع عندما يكونون عادلين وعلى قدر من النزاهة والشفافية.
لذلك فإن القدوة الصالحة والمطبّقة للنهج الصحيح قولاً وفعلاً تعتمد المنطق لا التحدي والتعالي والمكابرة، تكون بمثابة نبراس ينير الطريق للأخرين الذين يسيرون على نفس النهج، ولا سيّما عند الشدائد والمحن، فعندما تثبت القدوة ولا تزل؛ تكون المثل الأعلى وتكبر في النفوس وتعظم، وكم من شخصٍ كان يعدّ قدوةً، لكنّه سقط عند حلول الفتن فخالف قوله واعتقادُه عملَه، فنطق بكلمةٍ أريد بها باطلٍ، أو تصرّف تصرّفاً خالف الصواب، فسقط من أعين الناس وخابت ظنونهم به. 
وكم من قادة جلبتهم الصدفة والفراغ لملئشواغر القيادة المجتمعية بدون أن يكون لديهم الحد الأدنى من مؤهلات القيادة ، وفي أيامنا هذه نرى كثيرون ممن يقدمون أنفسهم كقدوة لكنهم سرعان ما ينكشفون ويتهاوون بسرعة البرق عند أول موقف يحتاج صلابة وعزيمة وقدرة ترسخ مفهوم القدوة.
وكم من أب لهثقضى جٌل وقته لاهثاً لجمع المال وترك أسرته في مهب الريح ليسقط بذلك أهم أعمدة القدوة التي ترتقي بالفرد وتحمي الأسرة.
وكم من زوجة وأم تاهت في غياهب الملذات والهفوات واللحاق بالأوهام لتكون إمراة هادمة لأسرة بدلاً من تكون إمرأة عظيمة ترسخ مفهوم القدوة في نشأة الأبناء وتكون رافعة في داعمة لزوجها ومساهمة في نجاحه، فهو الزوج والأب الذي يواجه تحديات الحياة ليكون بذلك قدوة فتنتزع هيبته وتحطم وقاره بجهلها وغياب وعيها عن أهمية القدوة.
الإنسان كي يكون قدوة لغيره يجب أن يكون مؤمناً بما يفعل ومقتنعاً به وليس لمجرد الاستعراض، بهذا يمكنه أن يقنع الآخرين بفكره ورؤيته خاصة عندما يرونه يطبق ما يؤمن به قولاً وعملاً.
كما يجب على القدوة أن يكون على قدر من العلم ولديه الفكر النير والعلم اللازم لتحليل الأمور بعقلانية ومنطق، بالإضافة إلى كاريزما القيادة التي تجعل من مريديه يحرصون على متابعته لاقتناعهم به وإيمانهم بصدق نواياه. 
إن القدوة يا سادة ليس في الإستعراض وتشويه الحقائق لأن ذلك لن يدوم، حيث لا فائدة من تعلّم علمٍ والعمل بما يُنافيه، ولن يقتدي أحدٌ بمثل هؤلاء بل سيتعرّضون للنقد والإعراض والعزل والشك والسقوط. 
كما يحتاج الأمر من الباحثين عن القدوة الإدراك بأهمية التفكير والتمييز بين الغث والسمين وعدم تغييب الوعي والإستسلام أمام غزاة الفكر الذين ينصبون أنفسهم قدوة في المجالس وهم يفتقرون للحد الأدنى من المصداقية.
فكلما ازداد المرء علماً تفتحت مداركه أكثر وصار عنده حجة الإقناع أقوى وأبلغ، لذلك من يريد أن يكون قدوة عليه أن يتمتع بروح المبادرة والتحلي بالمسؤولية الجامعة لا الفردية.
هذا عوضاً عن السهر على أحوال الناس والمتابعة لهمومهم ومشاكلهم والقدرة على إيجاد حلول سريعة تجعلهم يشعرون بالأمن والأمان والسلام.
فهل هذه القدوة موجودة في زماننا هذا وبيننا؟! 
في تقديري أنها غائبة ، كيف لا وما أستمع إليه من مشاكل وهموم كبيرة جميعها تقترن بعدم وجود القدوة التي تجعل الإنسان لديه القدرة على البوح بما يؤلمه ويؤرقه أو حتى أن يستطيع الإرتقاء بما يتعلمه ويقتدي به، فيصبح الأمر فعلاً وقولاً لا فصاحة خطابية وكلاماً معسولاً ظاهره جميل وجوهره خبيث!.
القدوة يا سادة تحتاج للكثير من الأفعال وأهمها خلق جسور الخير والعمل على ترسيخ روابط الأخوة لا الحديث بلسانين أمام الجمع بلسان وفي المقاهي والتجمعات الشخصية بلسان آخر!.
في الختام أجد أن القدوة قد سقطت في عيون الكثير من شبابنا لعدة إعتبارات يتحمل المسؤولية عنها جميع الأطراف التي تدعي بأنها قادة مجتمع، وهنا أجد أنه لا عزاء في شباب ضائع أضاعته فرق الإنتفاع والبحث عن المصالح الذاتية ، ولكن لابد من مسارعة الزمن من أجل صناعة القدوة وذلك عن طريق استقطاب الأشخاص المتميزين أصحاب الأخلاق الحسنة، وممن لديهم مواقف راسخة وثوابت أخلاقية راسخة بالإضافة إلى تسلحهم بالعلم ، هؤلاء يحتاجون لبيئة نظيفة طاردة لكل ما هو غير سوي، ويجب أن ترعى المجتمعات هذه النماذج الناجحة علمياً والمتميزة فكرياً وأخلاقياً وأن تقدم لهم كل الدعم الممكن، وأن تدفع بهم ليكونوا في الصدارة ومرئيين من الجميع كي يكونوا القدوة الحسنة التي لها تأثير إيجابي على سلوكيات الناس لا أن نتركهم يتخذون رؤوساً جهالا ممن سئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا!.