فرحان ريدان يكتب بدأ الحصاد

 بدأ الحصَاد ،ونصبَ جُرْهُمُ خيمةً في السهل . وذات ضحى ،ارتعشتْ أمامَه

 عروقُ الشعير، ثم ماجتْ واضطربتْ . ظن أنها زوبعة عابرة، لكن حَيَّةً حمراءَ 

اندفعتْ أمامه في حركة مباغتة،ثم ذهل وهو يرى ثعباناً أسودَ يطاردها في

 ضراوة : دارا، رعَّشا زروعَ السهل ،اشتبكا والتفَّا، انجدلا أمام عينيه كأنهما

 في معركة عاتية ، التقطَ حجَراً صلداً ملئ كفِّهِ، فانسَلَّتْ الحيةُ مبتعدةً تجاه 

رُجمة العبد . التفَّ الثعبانُ لاصفاً ومرعباً واندفع خلْفَها، وإذْ رفعَ رأسه المتَّقد

 فوق حجارة الحدّ ، ضربَهُ جُرهم بكل ما أوتي من رعب فرضَخَ رأسَه . 

استجمع شجاعتَه : دَقَّ عنقَ الثعبان وهو يرتجفُ ويرى إليه كيف يتقلصُ

 ثم يتجمَّعُ أقواسا غليظة ،ويمُوْرُ،ويترعَّشُ . 

بعد ساعة، وصل ابنُهُ اسماعيل يحمل زوادة وقربةَ ماء،

وركض الطفل كي يتفرج على الحنَش الذبيح. سأل أباه : وين؟.

 "قدامك عند القعقور" ردَّ جُرهم . 

أشار الطفل بيده الصغيرة غاضباً : ما في شي !

نهض جُرهم وهو يمضغ، فلم يجد للثعبان أثراً .

توقف عن المضغ وأطرَقَ مفكراً،لفظ نواة التمر في كفِّه.

وينو؟ أعاد الطفل سؤاله. 

الله أعلم . تمتمَ جرهم .

 توسل اسماعيل إلى أبيه أن يسمح له بالمبيت في الخيمة كي 

يتفرج على النجوم وهي تهوي حاملةً أعمارَ الناس،لكن جرهم توجَّسَ أمراً 

مريباً ولا يريد لابنه أن يبيتَ معه في السهل. قال :

"يالله ياروحي ..ارجع ع البلد ..يالله مثل الذيب " 

 عاد اسماعيل تجاه تل صُعد والغسقُ يذهِّبُ الغيوم فوق وادي اليرموك

رآهُ جرهم وهو يبتعد ويتلهَّى،مرَّةً يضربُ حجَراً على قطاة عالية

ومرَّةً يتربَّصُ بالجنادب قبل وثوبها..

وإذ تلألأتْ نجمةُ الصبح،شَعَرَ جرهم كأن صوتاً يناديه،نهض على عجل

فرأى رجالاً في زيِّ عسكري مهيب ينتظرونه قدام الخيمة صامتين.تحرك قائدهم تجاه رُجمة العبد في رُقَّة المقرونين، فهِمَ جُرهم أن عليه أن يتبعه،وخُيِّلَ إليه أنه في موكب،وأن الجنود الأربعة الآخرين يسيرون خلفه.وما إن فكَّرَ أن يرفع قدَمَهُ ويمشي، حتى ارتفعَ في الهواء ،حَلَّقَ ثم حَطَّ كما الطائر بين رجمة العبد وصخرة العيُّوطة.كان تحليقُه رشيقا كالنسائم،وجسدُهُ خفيفاً كالبهجة،وكان ضوء القمر يفضضُ صمتَ الرُّقة،حتى أن جرهم ميَّزَ عروق الدردار من عروق الهندباء،ورأى التماعَ دلوٍ معدني مقلوب.دخل قائدهم في صخرة العيُّوطة:

دخل من صفحتها الجنوبية،الملساء،السوداء واللاصفة،ودخل جرهم خلفه

فرأى قصراً ملكياً لألاء،يتوهج فيه الذهب،وتنسرب في ثناياه إشراقاتُ نور شفيف

وبهاءٌ آسِرٌ.ثم في رهبة،جلس ملك في يده صولجان على عرش مهيب.لمحَ جرهم،في ركن من

 القاعة الفسيحة،رجُلاً أسودَ مُسَجَّى،طويلا وقويَّ البنية،ورأسه معصوبة بالأبيض،

ربما كان شاشاً أبيضَ،ثم أحسَّ بسخونة مباغتة بين عينيه،كأن أحداً يسلط على

 جبهته شعاعاً وهَّاجاً،أدار وجهَه:ثمة امرأةٌ تنظر إليه،إلى عينيه خاصة، 

إنها واقفة قرب المسَجَّى في صمت،وإنها ناحلة متَّشحة بالبنفسج،أو القرمزي المعتم،

اللون الذي يجتذبُ حديثي النعمة،وإنها تنظر في عيني جرهم...

 " رامِنْ " .. نطقَ الملك. ارتعش جرهم ودخلتْ صبيةٌ كأنها الإشراقة وجلستْ عن يسار الملك

لاحظ جُرهمُ أنها فتية،يضوعُ جسدُها ندىً،ويتفتَّحُ صِباً،ويُشعُّ بابونجاً..وأحسَّ أن روحَهُ 

انخطافُ سنونو ، تئن ،وتندلقُ على خصرها،وسمعَ الهواءَ يتعذَّبُ ،ويتأنَّثُ في حضورها.

 ارتفعَتْ جثةُ المسجَّى قليلاً في الهواء،ورآها جرهم تتقدم كأنما تحملُها رافعةٌ غير مرئية

وظلتْ عالقة في الهواء قدام الملك،وران صمتٌ. " هارات ! " نطق الملك وارتجفتْ الجثة :

كنتَ مارقاً من المرَدَة فجعلتُكَ حاملَ الصولجان

ظلَّلْتُكَ مثلما ظلل الحَوْرُ الهندباء

فتطاولتَ كي تشربَ رامن ، سيدتَكَ ، ابنتي، الأميرة رامن

عُدْ إلى عماء الهيولى . وطاجن طين الطَّارة

ترمَّدْ كي يبولَ فوقكَ أبناءُ الناس : رِضْمْ .. رِضْمْ

جُرهم الذي لا يعرف القراءة ، قال هذه الكلمات بلا خطأ، كأنه يحفظها ، أو حُفِّظَها 

حكاها قبل عشرين عاماً في مضافة القميزي بوغنام بحضور برجاس الذي أضاف :

 وقال جُرهم ، يومها : يلعنْ والدي إذا كنتُ أكذب 

فقلنا له : إنت كبير القدْر ..