لقد حظيت الأمثال الشعبية بمساحة كبيرة من موروثنا الثقافي الذي يثبت حضوره في معتادنا اليومي..فمعظمنا يتداول هذه الأمثلة في التعاملات اليومية بتلقائية وعفوية لأننا تعودنا على سماعها، وبمرور الوقت أصبحت ضمن المخزون اللغوي الموروث..

الجميل في الأمثلة الشعبية بأنها لا تقتصر فقط على شعب معين بل هي موجودة في ثقافات كل الشعوب، وكأنها تدوين لمشاهد وتجارب تم اختزالها في جمل قصيرة وبلهجة دارجة بسيطة كي تتوارثها الأجيال المتعاقبة. انها خلاصة حكمة الشعوب تم تكثيفها وإيجازها في عدة كلمات، لذلك كان من السهل حفظها وتداولها بين الناس وظلت راسخة في الذاكرة الشعبية.. كما يمكننا أن نحكم على نضج ووعي الشعوب من خلال أمثالها الشعبية لأنها توثق فلسفة الجماهير وانتماءاتها الحضارية، وطريقة تفكيرها ونمط حياتها ومعاييرها الأخلاقية..

تتميز الأمثال بديناميكية التأثير، لأن من ساهم في صنعها كل أطياف المجتمع، فهناك أمثلة من شريحة المتعلمين وهناك أمثلة أطلقها الأدباء وهناك أمثلة من رجال الدين ورجال السياسة، وهناك أمثلة من رجل الشارع البسيط، ولهذا تنقلت الأمثلة الشعبية على كافة أشكالها بين فئات المجتمع المختلفة..

بلا شك أن الأمثال الشعبية تعكس قيمة فكرية حضارية لأنها ساهمت في تهذيب سلوكيات الناس عبر أجيال، وذلك من خلال الأمثلة التعليمية الإجتماعية، ولكن هذا لا يعني بأن كل الأمثلة تعليمية، فهناك أمثلة تتناقض مع الأخلاق والعقائد ولذلك يحتاج أي مجتمع إلى غربلة وتنقية هذا الموروث للحفاظ على المفيد منه والتخلص من السيء..

اللافت للنظر بأن الأمثلة العربية على امتداد الخارطة العربية تتشابه إلى حد كبير رغم اختلاف اللهجات، فنرى المثل يتردد بنفس المضمون والمعنى ولكن بلهجة مختلفة، ولقد ساهمت الدراما العربية في نقل هذا الموروث من خلال الأفلام والمسلسلات التي تنقل المعتاد اليومي للبشر، ولهذا نرى الأمثلة المصرية على سبيل المثال مفهومة في كل الدول العربية..‏
الحقيقة من خلال اطلاعي على العديد من الأمثلة الشعبية في أكثر من ثقافة عربية وجدت بأن بعض الأمثلة غير مناسبة للتداول، فهي تتعارض مع معتقدات دينية ربما قيلت عن جهل ولكن يرددها البعض دون التدبر في معانيها، وهناك أمثلة قد تتعارض مع مبادئ ورؤى حديثة، وهناك أمثلة متداولة تجد فيها تضارب رغم إنها من نفس المجتمع، هذا التناقض جعلني أفكر ملياً مدى مصداقية المثل في نقل صورة واضحة عن مجتمع بعينه، فما يراه البعض خطأً قد يراه الآخرين صواباً، وهذا فرض سؤالاً مهماً .. هل يمكننا اعتبار الأمثلة الشعبية موروث ثقافي مسلم به وغير قابل للنقد أو المراجعة؟ وهل يمكن أن نحكم على مجتمع ما من ما يتداوله من أمثلة؟!

أمثلة تناقض بعضها البعض، فيقولون مثلاً:

" الناس مقامات" ونقيضه " كلنا أولاد تسعة"

"الرزق يحب الخفية" ونقيضه " إجري يا بن آدم جري الوحوش غير رزقك لن تحوش".

" أعمل الخير وأرمه في البحر" ونقيضه " آخرة المعروف ضرب الكفوف"

" إصرف ما في الجيب..يأتيك ما في الغيب" ونقيضه " القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود"

" يا بخت من وفق راسين في الحلال" ونقيضه " إمشي في جنازة ولا تمشي في جوازة" 

" لبس البوصة بتصير عروسة"  ونقيضه " إيش تعمل الماشطة في الوجه العكر"

" إبعد حبة تزيد محبة"  ونقيضه " البعيد عن العين بعيد عن القلب"

" خير البر عاجله "  ونقيضه " كل تأخيرة وفيها خيرة" و " في التأني السلامة وفي العجلة الندامة"

" الخير على قدوم الواردين" ونقيضه " يا قاعدين يكفيكوا شر الجايين"

" اللي حظها قوي بتجيب البنت قبل الصبي" ونقيضه " لما قالوا إجا الولد ..إنشد ظهري وانسند"

 ايضاً هناك مقولة " يا مآمنة للرجال يا مآمنة للمية في الغربال" ومقولة عكسها تقول" ظل راجل ولا ظل حيطة".

مما سبق نستنج بأن الأمثال لم تأتي كلها بموقف أخلاقي ثابت، بل هي نتيجة خبرات مختلفة لأنماط بشرية متعددة ..

أيضاً كان للشعر دوراً في بعض الأمثلة الشعبية المتداولة تم أقتباسها من أبيات شعرية معروفة:

"لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها" أبو الطيب المتنبي

 " إذا أنت أكرمت الكريم ملكته، وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا" أبو الطيب المتنبي

 " لا تنه عن خلق وتأتي مثله..عار عليك إذا فعلت عظيم" لأبو الأسود الدؤلي..

" ما كل ما يتمنى المرء يدركه..تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" أبو الطيب المتنبي

"لا تحسبن المجد تمرا أنت آكله ... لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبرا" حوط بن رئاب الأسدي

"لا تحسبنّ رقصي بينكم طربا فالطير يرقص مذبوحاً من شدة الألمِ" أبو الطيب المتنبي

هناك بعض الأمثلة تناقض العقيدة والأخلاق ولكن الناس يتناقلونها عن جهل دون التدبر في معانيها :

"يعطي الحلق للي بلا ودان ويعطي الفول للي بلا أسنان" ، العاطي الوهاب هو رب العالمين مقسم الأرزاق بالعدل..

"إن  جاءك الطوفان ضع إبنك تحت قدميك"..مهما أصاب المرء فهو لا يضحي أبداً بأبنائه، بل يفعل المستحيل من أجل انقاذهم أولاً..

"لا بيرحم ولا بيترك رحمة ربنا تنزل"..وهل يمكن لبشر أن يتدخلوا في رحمة الخالق؟!

" الأقارب عقارب" ..هذا المثل يرسخ لقطع صلات الرحم..

هناك أمثلة تحض على النفاق :

" إذا لك عند الكلب حاجة أحكيله يا سيدي" .." اتمسكن حتى تتمكن" .."طعمي التم تستحي العين" .." أربط الحمار مطرح ما يقولك صاحبه".." اللى يتجوز أمي أقول له ياعمى"..

بعض الأمثلة وجدتها تكرس لفكرة الطبقية المقيتة وتقتل روح الطموح لدى الطبقة الفقيرة، على سبيل المثال:

 " وين رايح يا صعلوك بين الملوك" و " اللي ينظر لفوق تنكسر رقبته"، و" الناس مقامات" وعادة ما يتداولها أفراد من الطبقة العليا لتحجيم الفقراء وحصرهم في المستوى الفقير الذي يعيشون فيه.

وهناك أمثلة طريفة أذكر بعض منها:

" جابو الخيل تا يحدوها إجا الفار ومد رجله" .." اللي يبدلك بالفول بدله بقشوره".. "احترنا يا قرعة من وين نبوسك" .." إن غاب القط إلعب يا فار" .." لو كان الزلام بشواربهم لكان الصرصور أزلمهم".." جبنا سيرة القط إجا ينط"..

حكاية مثل..

لو بحثنا في أصول الأمثال سنجد بأن بعض الأمثال المتداولة لها أصل وحكاية..

" اللي استحوا ماتوا أو اللي اختشوا ماتوا" وهو مثل يقال للتعبير عن الاستياء من فعل لا أخلاقي..

يٌحكى أنه في عصر الدولة العثمانية انتشرت الحمامات الشعبية، وكان يرتادها كل من الرجال والنساء.. وذات يوم شب حريق هائل في إحدى حمامات النساء، وتدافعن للبس ملابسهن للخروج والهرب من الحريق وبعضهن فررن عاريات،  أما من لم يتسنى لهن ستر أنفسهن فضلن عدم الخروج حتى قضى عليهن الحريق، وتساءل الناس:  " هل مات أحد من النساء؟" رد المشرفين على الحمام " نعم اللي استحوا ماتوا"..

أما مثل " عادت حليمة لعادتها القديمة" فهو يٌقال عندما يقلع شخص عن عادة ثم يعود إليها ثانية..

يٌحكى أن حليمة زوجة حاتم الطائي المعروف بكرمه كانت شديدة البخل، فأراد زوجها أن يعلمها الكرم فقال لها: يقولون بأن من يزيد عدد ملاعق السمن في الطعام يطول عمره، فأصبحت تضاعف كمية السمن في الطعام، وعندما توفي إبنها الوحيد لم تعد ترغب في الحياة وبدأت في تقليل كمية السمن في الطعام لقناعتها بأن هذا سيقصر من عمرها فأصبح الناس يقولون: " رجعت حليمة لعادتها القديمة"..

سلوى حماد