المَهْجَرُ واغتيالُ الشخصيةِ

مع بداية العام الجديد ومع زحمة الأحداث لفت نظري تحدياتٌ لم أتطرقْ للحديث عنها من قبل، ووجدتُ أنه لابد من الحديث عنها اليومَ، حيث أن المهجرَ يتميز دائماً بتحدياتٍ كبيرة وغيرِ متوقعة في غالب الأحيان لتبعدنا بذلك عن حاجتنا للدفءِ الإنساني المطلوب في مغتربنا.

كنت أظن أن مفهومَ اغتيال الشخصية مرتبطٌ فقط بالأوساط السياسية والتي تمارس فيها أغلبُ هذه التيارات تصفيةَ حساباتها مع خصومها من خلال اغتيال شخصياتهم، سياسياً ليتم إقصاؤهم وإبعادهم، لكني اكتشفتُ بأن هذا الأمرَ قد امتد لأبعد من ذلك، حيث بات هذا السلوكُ العدواني المشينُ ينتشر بين الأفراد العاديين الذين تستهويهم فكرةُ اغتيالِ الشخصية مع من يختلفون معهم من خلال  الممارسات الهجومية التي ترمي الى تصفية الخصم اجتماعياً ومهنياً بقسوة وبدون رحمة،  بدلاً من التحاور معها فكرياً أو مهنياً والبعد عن الشخصنة، فالاختلاف في الآراءِ والمواقف شيء ٌ صحي ، ولا يجب أن يكون سبباً في صراع غيرِ أخلاقي، هؤلاء الناس يسخّرون أدواتٍ مختلفةً غيرَ أخلاقيةٍ من أجل تدمير سمعة الأخرين سواءً كانوا أشخاصاً أو مؤسساتٍ ، وقد ساهَمَتْ في تسهيل هذه المهمةِ وتسريع نتائجها وسائلُ التواصل الاجتماعي المختلفةُ ووسائلُ الإعلامِ المأجورةُ ، وتوفرُ مساحاتٍ أمام راغبي السيطرة ، للبعد عن المحاسبة وممارسة النزاهة والشفافية ..

حيث أنه عندما يتم اتخاذُ القرار من فرد أو مجموعة لاغتيال شخصيةِ خصمٍ ما، فإنهم يستخدمون أدواتٍ غيرَ نظيفة وأسلحةً نفسيةً فتاكة لتدميره، فيقومون باستهداف أمانته وذمته المالية والتشكيك بمصداقيته وأخلاقه ودوافعه، وذلك عن طريق توجيه اتهاماتٍ كاذبة له، وإشاعةِ معلوماتٍ مغلوطة عنه، وأحياناً يستخدمون نصف الحقائق ويكملونها برزمة من الأكاذيب والروايات الملفقة وغيرِ المثبتة بهدف التشهير به وضرب سمعته في الصميم ، كلُّ ذلك بقصد اغتيال شخصيته وتدمير صورته الإجتماعية ، ومن ثم ضمان عزله عن مجتمعه وتشويهه مجتمعياً ومهنياً.

في المهجر يتعرض بعضُنا للكثير من هذه المواقف الغريبة والشرسة من قِبَلِ مدمني السيطرة على الآخرين ، حيث أننا نجد أنفسنا في الواقع في مكان واحد مختلف تماماً عن البلد المنشأ ، فقد وفدنا إلى المهجر من بيئات متعددة وكلٌّ منا يحمل ثقافةً مختلفةً ، لذلك تطغى طبيعةُ السلوك الموروث على الكثيرين منا، سواءً كانوا على صواب أو على خطأ في تقديراتهم بالتعاطي مع علاقاتهم مع الآخرين، لكِنْ هناكَ الكثيرونَ ممن يتعاملون بلا ضمير وغير مبالين بضرورات ومتطلبات تطوير أنفسهم وتغيير سلوكياتهم بطرق مشروعة ، بما يتناسب مع طبيعة المهجر ومتطلباته الإنسانية والمهنية والمجتمعية من أجل توفير مناخ صحي متناغم بين كافة أطياف المجتمع.

وحتى ندخُلَ في جوهر الموضوع لابد لنا من توضيح مفهوم اغتيال الشخصية للقارئ الكريم، والذي يمكننا تعريفه بأنه الجهد المتعمد والمتواصل الذي يبذله البعضُ في إطارِ قواسمَ مشتركةٍ شيطانيةٍ تربطهم مجتمعين من أجل تدمير سمعة ومصداقية شخصٍ يتم استهدافه لدوافع غير منطقية، وهذا ينطبق على الجماعات والأفراد أيضاً.

من هي الفئةُ المستهدفة في عمليات اغتيال الشخصية؟!

عادةً ما يكون المستهدفون أناساً ناجحينَ في حياتهم وفي أعمالهم، أو أفراداً مؤثّرينَ في مجتمعهم، وهؤلاء بالطبع يشكلون تهديداً مباشراً لأعداء الحقيقة والحرية والنجاح.

وقد قيلَ حول هذا الأمر قولٌ شهيرٌ: " إنهم يحاولون قتلَ الحقيقة، وعندما يفشلون في تحقيق ذلك يحاولون اغتيالَ صوتِ الحقيقة"، خاصة لمن لديهم صوت يزأرون به كالأسود من أجل الدفاع عن مبادئهم وما يؤمنون به، أو عن النزاهة والشفافية التي لا تروق للأشرار والمنفلتين الذين يترعرعون في مستنقع تزوير الحقائق.

هذا تماماً ما يقوم به أفرادٌ تُسَخَّرُ لهم مواردٌ كثيرةٌ من أجل الإرتقاء بالإنسان، وبدلاً من ذلك يقومون بتتبع ومحاولة الاغتيال النفسي والمعنوي لكل من يعتقدون بأنه يشكل خطراً ليس أمنياً، بل فكرياً عليهم، خشيةً من افتضاحِ حقيقة أمرهم خاصة وإنهم يظهرون في المجتمع بخلاف حقيقتهم.

للأسف قد يجتمع مجموعةٌ من البشر على أهداف واحدة من خلال القراءات الفكرية الشريرة التي تروق لهم والتي تجعلهم ينسجمون فيما بينهم حتى لو كانوا من خلفيات ثقافية مختلفة بدون التدقيق بصحة ما يتلقون ، وكأنهم يعيشون في كوكبٍ آخرَ يزرع فيهم الخبثَ ليلتقوا سوياً حول هدف واحد وفكر واحد، وهو اغتيالُ شخصيةِ أي شخص يخالفهم بالفكر والسلوك، ليس هذا فقط، بل أحياناً يتفقون على اغتيال شخصية أي شخص ناجح حتى يعرقلوا مسيرتَهُ ويطفئوا نجمه بدون أي سبب منطقي سوى الرغبة غير السوية بالتخلص من كل شخص لا يتفق معهم ، أو يسلك طريقاً معاكساً لطريقهم .

أعلمُ أن هذه النماذجَ ليست بغريبة ولا محاولاتهم الخبيثة جديدة، لكنها تصبح أكثر نشاطاً عندما يصطدمون بمن يذكرهم بنقص في داخلهم ورغبتهم الجامحة بالانقضاض على الفرصة التي تتوفر أمامهم للاستحواذ على المقدرات التي تتوفر لهم حتى لو لم تكن من حقهم فقط، وذلك للإستفراد بالتصرف بها ، وإذا وُجِدَ بينهم شريكٌ نزيه يطالبُ بالشفافية، فإنهم يتفقون فيما بينهم على إقصائه وتحطيمه.

إنّ هؤلاء الأشخاص أصغرُ بكثير من المواقف التي تحتاج إلى رجال قادرين على صناعة الحدث والتأثير على الآخرين بإيجابية والقيامِ بنقلة نوعية وبناءة،  فيلجأون للتآمر فيما بينهم كمجموعة مُسَيَّرةٍ تماماً تأتمر بأوامر فكرها الشيطاني ، ويجمعها حقد دفين لإلغاء العقل والرغبة بالسيطرة على الآخرين وتجيير جهودهم لخدمة ما يسعون إليه من تمرير غشهم وخداعهم،  هذا فضلاً عن بذاءةٍ فكريةٍ غيرِ مسبوقةٍ تمثل انعكاساً صارخاً وفاضحاً للتربية والنشأة البيئية، وغالباً ما تمثل انعكاساً لفكر أيدولوجي مشوَّهٍ، أو لحالة حرمان متراكمة تزاحمها رغباتٌ شريرة خارجة عن سياق الفكر الإنساني السوي.

وهذا يأخذنا لحقيقةٍ واحدة وهي أن محاولاتِ الاستهدافِ واغتيال الشخصية لن تتوقف هنا وهناك، لأنها تنحصر في إطار الصراع المتواصل بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، وبين الراسخ والطارئ، وبين الأصل والهباء المنثور، لذلك غالباً ما تبوء كل محاولات الباطل والشر بالفشل والهزيمة، حتى وإن سجلوا جولةً هنا أو هناك، لكنهم حتماً خسروا ويخسرون وسيخسرون وذلك لأن هناك ببساطةٍ حقيقةً راسخةً وساطعةً ولا مجال للشك فيها وهي أن الزَّبَدَ يذهب جفاءً، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.

من هنا أستطيع القولَ بأنه لا شك بأن اغتيالَ الشخصية هو من أخطر الجرائم، فهي تقتل الشخصَ المستهدفَ أكثر من مرة لأنها تؤثر على سمعته الأخلاقية وسمعته المهنية وأحياناً قد تدمر سمعةَ الأسرة بأكملها، لذلك وجب محاسبة هؤلاء المستهترين بسمعة البشر وسن قوانين لمعاقبتهم حتى لا تتفشى هذه الظاهرةُ البغيضة، وحتى نحمي أفرادَ المجتمع خاصةً الناجحين منهم، وذلك من أعداء النجاح الذين يسخرون طاقاتهم من أجل إفشال الأخرين ويعرفون كيف يحتالون على القوانين.

أخيراً :لا يسعني ونحن نستقبل عامنا الجديد إلا أن أعبّرَ عن بالغ أمنياتي بأن يكون هذا العامُ عامَ التوافق والتلاقي بين البشر، عاماً يتراجع فيه التفكير الشرير لدى بعض البشر ليحل محله التفكير السوي البنّاء، عاماً ينظر فيه الجميع بإيجابية وبمحبة وبنظرة شمولية تخدم المصلحة العامة لا المصلحة الفردية والذاتية والأجندات الوهمية التي مصيرها الزوال والتي لا تخدم حالة العيش المشترك في المهجر ، عاماً تلتقي فيه الرؤى والأهداف من أجل الالتفاف حول فكرة صناعة الإنسان وزراعة الأمل فيه لتجاوُزِ كل الصعوبات التي تواجهه وتقلل من اندفاعه نحو الاستثمار في طاقاته وما يمكن أن يتمخض عن ذلك من إبداعات بالمشاركة البناءة مجتمعياً ومهنياً وإنسانياً وعلى كل المستويات. 

كل عام وأنتم بخير...