آخر الأخبار

الانتماء..ضرورة إنسانية وواجب أخلاقي

في الأول من شهر يوليو احتفل كل الكنديين كعادتهم بالعيد الوطني ورفرف العلم الكندي على مدخل كل بيت، واجتهد المواطنين في التعبير عن حبهم وولائهم للوطن، فأطلق سكان كل منطقة الألعاب النارية في ظل فرحة الأطفال وابتهاجهم بهذه المناسبة، ولم ينسى الكنديين شروط التباعد الاجتماعي بسبب فايروس كورونا فجاء الاحتفال مختلفاً بعض الشيئ عن الأعوام السابقة.. 
هذه المظاهر البهيجة التي يصنعها المواطنين الكنديين لإحياء عيدهم الوطني كل عام هي تعبيراً صادقاً عن انتمائهم لهذا البلد الذي وفر لهم العيش الكريم والعدالة الاجتماعية، هذا جعلني أفكر ملياً في ماهية الانتماء وحاجة الإنسان له..هل يحتاج المرء بالفعل للانتماء إلى كيان ما، أو وطن ؟ وكيف يكون انتماء المهاجر لوطنه الجديد؟!
عندما رتب أبرهام ماسلو هرمه للحاجات الإنسانية للفرد جاء الانتماء في الدرجة الثالثة بعد الحاجات الغريزية (الطعام، الشراب، الكساء، المأوى، والتناسل) وتقدير الذات..بداية يكون الانتماء للأسرة ثم يكبر ويصبح الانتماء للمجتمع وهذا يمنح الفرد الشعور بالأمان الاجتماعي، ثم يأتي الأنتماء الأكبر وهو الانتماء للوطن الذي يمنحه هوية واضحة ويرسخ عنده الشعور بالتميز بين الأمم الأخرى، أما الانتماء الديني فهو مهم جداً لأنه يمد الإنسان بالأمان الروحي ويدعمه نفسياً.
يبدأ الانتماء في مراحل مبكرة إلى أن يكتمل نضجه بالانتماء للوطن، وفيه تتجلى العلاقة الطبيعية المتناغمة بين الأفراد والمجتمعات التي يعيشون فيها..ولا يتأسس هذا بمعزل عن دور الأسرة والمدرسة ، فهما يلعبان الدور الأهم في ترسيخ ثقافة الانتماء..
أكثر من مرة سُئلت عن انتمائي ، هل هو لبلدي الأصلي أم لكندا؟ وكانت إجابتي واحدة وهي انتمائي لكلاهما، فلا يمكن التنكر لبلد منحني حق المواطنة ومنحني امتيازات وحقوق، انتمائي لكندا لا يتعارض أبداً مع انتمائي لموطني الأصلي الذي لم أعش فيه ولم أمارس فيه حق المواطنة فعلياً، ربما  حالتي تختلف عن الأخرين، فارتباطي بوطني هو ارتباط عاطفي ورثته عن والدي لكن الانتماء الحقيقي هو انتماء ينتج عن خبرة معاشة بين المواطن والوطن..
جدلية الانتماء التي يتعرض لها المهاجر عندما يعود لوطنه في زيارة، تضعه في حرج  وحيرة ، لكن الحقيقة أن الانتماء يمكن أن يكون متعدداً وأنا أعتبره نوعاً من الوفاء والعرفان وليس نفاقاً كما يرى البعض.
الشعور بالانتماء للبلد الجديد هو شعور مساند وداعم لعملية الاندماج والتأقلم، وهو شعور نابع من حاجة المهاجر إلى الاستقرار وممارسة حق المواطنة دون تعقيدات حتى يستطيع أن يبني حاضر جديد ويضع تصورات وأهداف لمستقبل قادم على أرض جديدة.
علينا أن نتفهم تخوف الدول المضيفة من المهاجرين الذين يأتون بقيمهم وعاداتهم وتقاليدهم التي بلا شك ستؤثر على المجتمع بطريقة أو بأخرى، ولذلك على المهاجرين إثبات حسن نيتهم في أن يكونوا مواطنين حقيقيين وليس مجرد ضيوف مؤقتين وإظهاررغبتهم في التغيير من أجل الانخراط في المجتمعات الجديدة، على المهاجر أن يثبت مصداقيته ورغبته في الانفتاح على ثقافة أهل البلد وتعلم لغتهم..
للأسف كثيرون يعتقدون بأن الانتماء للبلد المضيف هو تخلي عن الشعور الوطني والانتماء للهوية الأصلية، وهذا بالتأكيد غير حقيقي ولا يتعارض مع الهوية الأصلية.. برأيي أن الإنسان إذا ظل يحكي لغته الأم سيظل محافظاً على انتمائه لهويته الأصلية لأن اللغة هي وعاء للموروث الثقافي وستظل تربطنا بذكرياتنا وبأهلنا وبعاداتنا وتقاليدنا في الوطن الأم.
ماذا يحتاج المهاجر كي يشعر بالانتماء لوطن جديد غير وطنه الأصلي؟!
يحتاج إلى الاستقرار..بلا شك أن عملية الانتماء للوطن الجديد ليست عملية سهلة وتحتاج لوقت ، لأن المهاجر يمر بمرحلة انتقالية فيها الكثير من الصعوبات حتى يصل لحالة الاستقرار النفسي والمادي كي يفكر بطريقة سليمة، بالإضافة إلى الصراعات التي تتجاذبه على أصعدة مختلفة أهمها الصراع ما بين ثقافته الأم وثقافة المجتمع الجديد ومحاولة إحداث توازن بينهما، هذه الفترة الانتقالية تختلف من شخص لآخر، فكلما توفر المناخ المناسب للاندماج تحت مظلة العدل والمساوة كلما قصرت المدة التي يحتاجها الشخص كي يشعر بالانتماء الحقيقي للوطن الجديد..وأحب أن أنوه هنا بأن المستوى المعيشي الجيد وحده لا يكفي كي يشعر المرء بالانتماء، بل هناك أشياء أكثر أهمية ترسخ ثقافة الانتماء كالإحساس بالكرامة الآدمية، والعدالة الاجتماعية والمساواة.
ماذا يريد المهاجر من بلده الجديد  وما هي احتياجاته كي يصل إلى حالة الاستقرار؟
يحتاج المهاجر إلى معاملة حسنة ، يحتاج إلى ترحيب وتقبل من قبل المجتمع الجديد بغض النظر عن لونه ، عرقه ، دينه..يحتاج إلى الشعور بالأمان والإحساس بأنه شخص مرغوب في وجوده، يريد من الدولة أن تساعده في وضع قدميه على أول الطريق كأن توفر له مراكز تقدم له الخدمات الاجتماعية التي تمده بالمعلومات الصحيحة من مصادرها الموثوقة، يريد أن يتعلم اللغة التي تعتبر الحاجز الأكبر لأي مهاجر...وحقيقة النموذج الكندي يعتبر من أنجح النماذج في هذا المجال، وكلنا يعرف كيف تهيأت الحكومة الكندية لاستقبال الإخوة السوريين وغيرهم من المهاجرين وكيف وقف الشعب مع الحكومة جنباً إلى جنب لتسهيل مهمة استقبالهم،وتسهيل خطواتهم الأولى في بلد الاغتراب وتأهيلهم ليصبحوا مواطنين كنديين لهم كامل الحقوق والواجبات.
ولأن علاقة المواطن بالوطن علاقة تكاملية فيها أخذ وعطاء فعلى المهاجر أن يخلع من عقله فكرة أن الاندماج سيذيب هويته الأم في المجتمع الجديد، عليه أن يتفاعل مع محيطه ويخرج من عزلته ويكون رقماً إيجابياً مع الحفاظ على التوازن بين الهويتين، هوية البلد الأم وهويته الكندية فكلاهما محل فخر واعتزاز.
ففي البلدان التي تحصل فيها المهاجر على الأمان والفرص التعليمية والوظيفية المناسبة بالإضافة إلى حقوق المواطنة الكاملة كالعدل والمساواة وتكافؤ الفرص في الدراسة والضمان الاجتماعي، الصحي، والوظيفي كان الانتماء واضحاً للدولة المضيفة وظهرت نماذج ناجحة جداً ساهمت بفعالية في عملية البناء والتطور، وفي كندا نماذج مشرفة جداً من أبناء الجالية العربية التي ساهمت مساهمات فاعلة ومؤثرة في المجتمع الكندي.
أما في الدول التي تعرض فيها المهاجرين للتفرقة والتمييز العنصري بسبب اللون والدين والعرق، لم تترسخ لديهم ثقافة الانتماء للبلد على مدار عقود بسبب عدم شعورهم بالأمان وإحساسهم بأنهم ليسوا مواطنين من الدرجة الأولى فتولدت لديهم حالة من الشعور بالظلم والإحباط الذي أدى إلى انعزالهم في مجموعات منغلقة على نفسها وعزوفهم عن التفاعل مع المجتمع والمشاركة في عملية البناء وبالتالي كانوا عرضة للأفكار الهدامة، وفريسة سهلة للتيارات المتطرفة .. 
ربما أهم ما يميز كندا التي تعتبر من أكثر الدول استقطاباً للمهاجرين هو عدم ضياع وذوبان الهوية الوطنية لكل مجموعة إثنية، فقد حرصت الدولة الكندية على إعطاء الفرصة للجاليات المختلفة لترسيخ ثقافاتهم عن طريق إفساح المجال لهم لإقامة مهرجاناتهم الثقافية، وأحياء لغتهم عبر مساحة إعلامية بلغة كل جالية على الإذاعة المسموعة، كما أعطتهم حرية ممارسة طقوسهم الدينية في دور عبادة خاصة بهم بالإضافة للسماح بمدارس الجاليات التي تدرس اللغة لأبنائهم، هذا بلا شك ساعد في تعزيز الهوية الدينية والوطنية لكل مجموعة وساهم ايضاً في إحداث الترابط والانتماء بين الأجيال الجديدة وأوطانهم، كما ساهم في إحداث حالة من الارتياح والامتنان والانتماء للدولة الكندية من قبل كل الجاليات الموجودة على الأرض الكندية.
وكيف يمكننا أن نظهر امتناننا وولائنا لكندا؟
عندما نصل لمرحلة نشعر فيها بأن هذا الوطن لنا وأنه مسؤول عما نحن فيه من أمن واستقرار، تلقائياً سنشعر برابط نفسي يولد فينا إحساساً عميقاً بالانتماء إلى هذ الوطن، وعليه يتوجب علينا ان نترجم إحساسنا لفعل، علينا أن نبني جسوراً من التفاهم والتواصل مع كل مكونات المجتمع ونعزز هويتنا العربية من خلال إيصال موروثنا الثقافي للمجتمع الكندي حتى يتعرفوا علينا أكثرلأن العامل الثقافي هو الأكثر قدرة على تقريب الشعوب من بعضها البعض وخلق حالة من التناغم والانسجام بينها.
ليكن انتمائنا لكندا انتماءً بنّاءً يتعدى الشعارات البراقة والمظاهر الاستعراضية، ليكن انتماءً عملياً واقعياً ومنتجاً ويتعدى حدود الذات ليصبح الكل أهم من الأنا، وتصبح الوحدة الوطنية هدفاً نسعى إلى تحقيقه بكل صدق وأمانة، والحفاظ على مكتسبات الوطن  وأمنه رغبة أكيدة مترسخة في أعماقنا ندعمها بالفعل لا القول فقط..علينا أن نمارس السلوكيات الإيجابية الجميلة كالتسامح وتقبل الأخر المختلف والتكافل حتى ننعم بالسلام مع كل من يشاركنا هذه الأرض الطيبة.
وفي الختام يمكننا القول بأن الانتماء للوطن هو جملة من الأحاسيس والمشاعر الجميلة تجعلك تضحي من أجله وتغرس هذا الحب في ابنائك حتى يتناقلوه جيلاً بعد جيل..
كل عام  وكل الكنديين بخير وأمن وأمان..كل عام وكندا في رفعة وتقدم وازدهار ..
كل عام وكل المسلمين بخير بمناسبة عيد الأضحى المبارك الذي سيهل علينا قريباً..

سلوى حمّاد