إلى إشعار آخر

نذرت نفسي للصوم... كل شيءٍ في الغياب يصبح شرعيًا ومنطقيًا!
 حين تغيب الشمس،أو يأفل القمر،أو ينزوي البحر، أو تنكمش الجبال، لا معنى لأن أبقى أضجُّ في ثرثرتي وأرتدي على وجهي ملامحالزهو والفرح!
ما الحياة... إن كانت شمسها الذهبية تهددني بالمغيب طِوال الوقت، وقمرها الفضي يتربع على عرش الغيابدون أن يقدم إليَّ أسبابًا أو يدور في فلكه أي عذر؟!
والبحر... هذا البحر الكبير، المترامي الأطراف،الثلاثي الأبعاد، أيضًا يهددني، بل ولديه نيَّة مبيتة للانزواءخلف صخرة بعيدة عن مرمى البصر!
والجبال...الجبال التي كانت أحجية لي منذ الصغر، ولغزًايحيرنيويضعني دائمًا في خانة السؤال... كيف يقف هذا الكون على قدميه دونما عكازٍ؟وكيف يكونصلبًالا تهزه ريح عاتية ولا تغرقه جحافل المطر؟!
هذه الجبال أيضًا تراود نفسها على الانكماش!
وأنا التي كنتُ أسكن هذه الجبال، أختبئداخلها حين يدق ناقوس الخطر،أحصِّن نفسي بعلوِّهاوأتدثر بصمتها... كيف سأبدو فيما بعد لباقي البشر؟ 
هل سأبدولهم كعملاق بشري يزحف نحوأهل الأرض؟!
سيخافون مني، وينتشرون بعيدًاعني، وقد يشهرون رماحهم في وجهي، أو يحاولون تصويب سهامهمتجاه قلبي... وقلبي أميٌّ لا يجيد قراءة أبجدية هؤلاء البشرفكيف سينجو منهمأو يفرُّ؟
لا شمس بعد اليوم تدفئني، ولا قمر يؤنسني،ولا بحر يحتضن خوفي وأرقي،ولا جبال تخبئني في حالة الهلع، ولا غيمة تظللني من طيش المطر.
 أنا وحدي في مرمى الهدف!
ويحاصرني الليل بعينين يملؤهما الشك، وترتجف على شفتيه عبارات مستعارة من قواميس اللغة، يمدحني ويهجوني بنفس الوقت، ويطلب مني أن أعتلي عرش الكلمات لأسبِّحه وأقدِّسه،وأن أهبط إلى سابع أرضإن لاح بالأفق نجم شارد يبحث عن ضالته في رياض الأفق!
 ونسيَّ أو تناسىأن النجوم جذورها غافيةفي عمق السماء،لا تطالها مخالبُّ الليلمهما طالت، قست، اخشوشنت، عربَّدت!
وأن من خُلق ليزحف على الرمال سيبقى طِوال العمر من الزواحف وإن نبتت على شرفاته أجنحة مضيئة، وزعانفملونة،وأعداد لا حصر له من الأذرع والأرجل.
ومع ذلك أنا لم أستسلم، ولم يكن الاستسلام في أبجديتي،لكنَّ الحياة داخل عيون الليل قاتلة!
والحياة خارج عيون الليلدونما شمس، قمر، بحر، جبال أنتمي إليها، وأحمل هويتها، وأكتب على جبيني اسمها...حياة مفرغة من النعم،أكسجينها خانق،هواؤها مالح، ماؤها لا يسمن من جوع ولا يروي من ظمأ.
وأنتَ أيها الليل الأسوددعني أعلنها عليكوعلى الملأ: أنني منذ اللحظة التي نصبَّتفيها عينيك قاضيًا عليَّ وجلادًابنفس الوقت انسحبت من حدائق اللوز...موطني، موطن أشعاري، موطن الفقراء من أبناء الشمس وأنذر تنفسي للصيام عنك إلى الأبد.
لا ثرثرة بعد اليوم مع عينين لا يملؤهما الحبُّ، ويعبث، ويلهو، ويتبختر في أحداقهما شيطان الشك.
لا ثرثرة بعد اليوم معك أيها الليل،وصيام عنك يا إلى آخر الدهر...صيام عنك يا ليل إلى إشعار آخر!