آخر الأخبار

على كوبري قصر النيل.. للأديبة سلوى حماد

هناك مدن نزورها لنمارس فيها عبث الطفولة ... وهناك مدن نزورها لنكبر ونعيش فيها عمرنا الحقيقي .. وهناك مدن نزورها لنبكي على صدرها .. هكذا هي القاهرة قادرة على احتضان المعذبين من البشر ونيلها قادرعلى ارتشاف المزيد من الدموع دون الخوف من ارتفاع منسوب مياهه.
في القاهرة ومن على كوبري قصر النيل تحديداً استحضرتك بشدة وشعرت بأنفاسك تختلط بعناد مع نسمات الهواء الباردة..أزحت الشال الذي يغطي رقبتي وفمي ليقيني من موجة برد لم تعهدها القاهرة في هذا الوقت من السنة..فعلت ذلك لآخذ شهيقاً عميقاً ليبعث الدفء في أوصالي المرتجفة، ورغم العتمة التي بدأت تزحف على الأفق إلا أن صورتك كانت متلألئة تضيء مياه النيل الرمادية ..أحكمت شالي ولففته جيداً لأتقي شر لسعة برد...سرت بخطى متثاقلة ويدي في جيبي وعيناي تتجولان حولي..في القاهرة لا تستطيع أن تغمض عينيك لأنها مدينة ثرية بالمشاهد والتناقضات...ففيها تشتم عبق التاريخ وأريج الحضارة الحديثة، ما أجمل هذا التناغم ما بين الماضي والحاضر في حضرة نهر النيل العظيم..وعندما تتصفح وجوه أهل البلد وإن اختلفت ملامحهم تجدهم يتفقون على صفة واحدة وهي الطيبة..يقتربون منك بمحبة ويعرضون عليك خدماتهم بمجرد أن يعرفوك زائراً .. 
سرت وأنا أتصفح الوجوه، لمحت بعض المحبين يسيرون وأيديهم متشابكة يتحدثون وشوشة ..ويسيرون بحيوية تعلو أصواتهم فجأة وتخفت فجأة ربما لاختطاف قبلة سريعة.. غضضت بصري حتى لا أنغص عليهم خصوصيتهم بفضولي اللامقصود...وتوقفت عند بائع حمص الشام بعد أن اعترض طريقي فجأة...»ياست هانم ..عندي أجدع حمص شام في مصر كلها» ابتسمت من قلبي فناولني كوب ساخن من حمص الشام جاء في وقته، وناولته ثمنه دون أن أنتظر لأخذ الباقي...تهادى لي صوته وهو يدعو لي:» ربنا يعمر بيتك يا ست الكل»...ما أجمل هذه الدعوات التي تأتيك من أناس لا تعرفهم..فقط للإعراب عن حالة من الامتنان..
قررت السفر حتى أغسل دماغي من كل شيء ..أردت أن أؤثث لذاكرة بكر لا تصلح لأن تكون محطة استكشافية ولم تطالها بعد النوبات القلبية..لكنني اكتشفت بأننا في السفر نكون أكثر إلحاحاً في استحضار وجوه من نحب..
لقد كان فصل الربيع يزهر فينا فيسقى جفاف القلب وفجأة زار التصحر واحة مشاعرنا فهدأت نبضات القلب المجنونة وصمت الهاتف صمت القبور..وهذا ما جعلني أتساءل إذا ما كان هناك تاريخ صلاحية للمشاعر.. وإن وٌجد يا ترى أين نجده مكتوباً؟!
لا أدري لماذا أوثق مشاعري كتابة بعد أن أعددت نفسي للنسيان...فالكتابة تشعل مزيداً من الحنين وتغرس خنجراً في خاصرة النسيان..ربما ليبقى قلبي نابضاً فلا تتخثر مشاعري وأٌصاب بجلطة عاطفية...