إسماعيل وحش آدمي!!

 

يرثي الصحافي والكاتب البريطاني، دوغلاس موراي، في كتابه "الموت الغريب لأوروبا" حال القارة التي تموت أمام أعين أهلها من دون أن تجد من يصدّ عنها ما سماه "الجور البربري" الذي يتدفق إليها من البحر والبرّ نتيجة موجات اللاجئين.

وعندما زار دولة الاحتلال الإسرائيلي في أيار 2019، بغية المشاركة في أول مؤتمر لـ"حركة المحافظين الإسرائيلية"، صرح بأنه لاحظ أن أكثر الأشخاص علمانية في إسرائيل على صلة وثيقة بالدين اليهودي، مؤكّداً أن مثل هذا الوضع غير قائم في أوروبا مثلا.

وكان صاحب هذه المقالة قد أشار، أكثر من مرة في سياقات متعدّدة، إلى أن باحثين من المعهد الإسرائيلي للديمقراطية حللوا معطيات كثير من استطلاعاتٍ للرأي العام بشأن درجة تديّن الإسرائيليين، أجريت بين الأعوام 1994 و2014، وتوصلوا إلى استنتاج أن لا أساس مكينا للخطاب الذي يقسّم المجتمع الإسرائيلي إلى متدينين وعلمانيين، وأكّدوا أن هناك امتدادا عضويا داخل هذا المجتمع، بدءا من أشدّ المتزمتين بالمحافظة على الفروض الدينية حتى الذين لا يحافظون على هذه الفروض بتاتا، من دون وجود أي فصل ثنائي حادّ.

من الطبيعي، والحال هذه، أن تستند معتقدات كثيرة سائدة في لاوعي الإسرائيليين، إن لم يكن في وعيهم التام، إلى نصوص الشريعة اليهودية (الهلاخاه)، ومنها وربما في مقدمها المُعتقد المتعلق بـ"الوحوش الآدمية"، والذي تستدعي الحديث عنه الآن ضجة قامت أخيرا حول مذيع تلفزيوني إسرائيلي مخضرم نعت العرب بهذه الصفة، في بث حيّ ومباشر من على شاشة قناة التلفزة الإسرائيلية الرسمية.

لعلّ أول ما يتداعى، في سياق الصلة بين سلوك هذا المذيع والنصوص الدينية اليهودية، أن خلع صفة "وحش" على إنسانٍ ورد، أول ما ورد، في سفر التكوين، أول أسفار العهد القديم، وتحديدا في الإصحاح السادس عشر، الذي يتحدث عن هروب هاجر من وجه سارة التي بدأت بإذلالها بعد أن حملت من إبراهيم الخليل، فوجدها الملاك بالقرب من عين ماء في البريّة، وأمرها بالعودة إلى مولاتها (سارة) و"الخضوع تحت يديها".

وكما يرد في الآيتين 11 و12 من الإصحاح نفسه: قَالَ لَهَا مَلاَكُ الرَّبِّ: "هَا أَنْتِ حُبْلَى، فَتَلِدِينَ ابْناً وَتَدْعِين اسْمَهُ إِسْمَاعِيلَ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ لِمَذَلَّتِكِ. وَإِنَّهُ يَكُونُ إِنْسَاناً وَحْشِيّاً، يَدُهُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ، وَيَدُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَيْهِ، وَأَمَامَ جَمِيعِ إِخْوَتِهِ يَسْكُنُ".

ويفيد أحد التفاسير بأنه كما جرى ربط شخصية عيسو، الشقيق التوأم ليعقوب ابن إسحق، بالنصرانيين، ارتبطت شخصية إسماعيل، في الذهنية اليهودية، بالعرب والمسلمين، وبالتالي انسحبت صفة "الإنسان الوحش" عليهم في الحاضر، كما في الماضي.

قبل نحو خمسة أعوام، قتل أربعة مستوطنين إسرائيليين في إحدى مستوطنات القدس الشرقية، في عملية للمقاومة الفلسطينية. وفي أثناء مراسم تشييعهم، ألقى حاخام المستوطنة كلمة تأبينٍ، قال فيها من ضمن أمور أخرى: "لا يوجد هنا إنسان، بل وحش آدمي. إسماعيل هو وحش آدمي. وحش قبل آدمي، كون ماهيته وحشية ولا ينتمي إلى عالم يمكن أن يكون فيه سليل ثقافة رفيعة وتربية سليمة".

يجدر أن نشير هنا إلى أن الترجمة العربية للآية التي تصف حديث الملاك مع هاجر تتحدث عن ولادة "إنسان وحش" هو إسماعيل، كما ثبت أعلاه، في حين أنه في الأصل العبري يدور الحديث عن عبارةٍ ترجمتُها الحرفية "وحش آدمي". ومن هنا، خلص ذلك الحاخام إلى أنه وحش، قبل أن يكون آدميا.

ومن أكثر التفاسير المتداولة لهذه العبارة، كما جاء في مراجع إسرائيلية، تفسيران؛ الأول للحاخام يوحنان، وجاء فيه أن معنى تلك العبارة يفيد بأن الجميع يعيشون في الحيّز الحضري، بينما كُتب على إسماعيل وذراريه أن يعيشوا في البراري القاحلة. والثاني الأكثر بهيمية هو للحاخام شمعون بن لكيش الذي قال: الجميع يسرقون أموالا، أما هو فيسرق أرواحا، ومثله مثل الكلب الذي يأكل الجيف.

عن "عر ب ٤٨"