آخر الأخبار

فن الخطابة هو سلوك سوي وليس غطاء على سلوك قبيح

من المعروف أن التأثير في أي مجتمع لتسويق فكرة ما يبدأ من القدرة على مخاطبة الناس بما يحاكي عقولهم وثقافاتهم المختلفة، حيث ان التأثير بالآخرين والقدرة على تحفيزهم تبدأ من القدرة على التعبير عن الأفكار الكامنة بالنفس وإيصال المعنى بفعالية وقوة، ولهذا أصبحت مهارات الخطابة والإلقاء من المهارات الأساسية التي يجب على أي إنسان أن يتعلم كيفية إتقانها بصدق وواقعية، بعيداً عن الخيال والتعقيدات الموروثة!، ولذلك عليه ان يتجنب محاذيرها، خاصة انه كلما تم استخدام المهارات الخطابية في زراعة الخير كلما كان هناك مردوداً إيجابياً على الإبداع والإرتقاء في تركيبة المجتمع ورخائه وإزدهاره بشكل عام.

لذلك ان كان من المعروف عن الخطباء أنهم يعملون على معالجة مشكلات المجتمع في محافل عامة، كمشكلة الفقر، والجهل، والمرض، والبطالة، والانحلال الخلقي وغيرها، فان هذا بلا شك أمر مهم وحيوي في مجتمعات العالم الثالث، أما في المهجر فلغة الخطابة يجب أن تتغير بما يتناسب مع متطلبات المجتمع المنفتح والتحديات الناجمة عن ذلك، وتصبح أهمية مهمة الخطباء في المجتمعات التي ينتمون إليها تكمن في قدرتهم على أن يجمعوا الصفوف وأن يوصلوا من خلال خطاباتهم رسالة لكل أبناء جاليتهم بضرورة الإندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها والتأثير فيها إيجاباً والمشاركة الفاعلة في البناء والإعمار والإبداع.

لكن للأسف يتسلل أحياناً إلى صفوف هؤلاء الخطباء بعض المنفلتين فكرياً وسلوكياً، وبدلاً من توجيه الناس وتحفيزهم وتشجيعهم على النجاح وتعريفهم بحقوقهم وواجباتهم وخلق مساحات من التعاون فيما بينهم، يصبحون أداة لإستغلال الناس وتوجيهها ضمن آليات وأجندات محددة تتم تحت إسم الجالية.

يبدو بأن ذلك يتم من أجل خدمة أهداف قبيحة بعيدةً كل البعد عن خدمة أبناء المجتمع وتصب في صالح وخدمة مجموعة من الأفراد  أو مجموعات متقاطعة المصالح لا يعرف عنها المجتمع شئ،  وهذا أمر مثير للتساؤل حيث أنه معيب للغاية، لذلك لا يجوز منح هؤلاء مرجعيات قيادية دون التحقق من ما يقدمون وإعتماد المحاسبة والمسائلة نهجاً مبدأياً وجوهرياً حتى لا يستغلوا قدرتهم على الخطابة في دغدغة مشاعر الناس من خلال خطاباتهم الرنانة واستغلالها في مطالبتهم الدائمة بالتبرع في صناديق أحياناً تكون بعيدة كل البعد عن الشفافية.  

أنا هنا لا أشكك بذمم أحد وهناك مؤسسات رائدة تقوم بجمع التبرعات لخدمة برامج إنسانية تمثل بالفعل مدعاة للإعتزاز بما تقوم به،  حيث أنه من الطبيعي أن لا نكون ضد العمل الخيري الشفاف والمساهمة في بناء المزيد من الأماكن التي تقدم الخدمات المجتمعية والثقافية والعقائدية لتصبح منارات نعتز ونفتخر بها، تشارك في بناء الإنسان وفتح أفاق الإبداع أمامه بدلاً من ممارسة الإرهاب الفكري والترويع والتخويف والتحقير من شأن الآخرين ممن هم خارج دوائرهم الضيقة!.

أحاول هنا أن أسلط الضوء على الفوضى الناجمة عن عدم الرقابة الذاتية والمجتمعية وأن أنوه إلى حقيقة أن وجود خطباء سيئين لا يلغي حضور الخطباء الملتزمين فكرياً وثقافياً وعقائدياً ومجتمعياً وإنسانياً وأخلاقياً وهذا يضحض بلا شك أي تشكيك بهذا المجموع المبدع من أصحاب الفكر والرأي  أو محاولة حصرها بأفراد هم مسؤولين عن سلوكياتهم القبيحة أو غير السوية.

 حيث نُشر مؤخراً من خلال وسائل الإعلام  المختلفة، خبراً يخص أحد الأئمة في مدينة تورونتو الذي اتهمته امرأة باستغلالها وممارسة الجنس معها عدة مرات تحت ضغط الابتزاز وإيهامها بأنه قادر على علاجها ومساعدتها في حل مشاكلها، وغير ذلك من الخزعبلات الرخيصة، مما فتح شهية البعض للتشكيك بالمجموع من المفكرين وأصحاب الرأي والخطباء، وهذا لا يعني  بالمطلق أن يصل أحد الخطباء إلى هذا المستوى المتدني هو أمر عابر بل هو أمر مشين للغاية ، كما أننا لا ندري كم من الحالات المماثلة التي لم يتم الكشف عنها حتى اللحظة خوفاً من الفضيحة ولكنها بالتأكيد لا تمثل سوى قلة تمثل أنفسهم فقط ولا تمثل المجموع وهذا أمر قد يحدث مع أي إنسان بشكلٍ عام بغض النظر عن ثقافته أو دينه أو مكانته!.

لذلك نحن هنا نتمنى أن لا يعمم هذا النموذج المسئ وأن لا يتم السماح لمثله  بالتسلل إلى هذه المنابر، لأن الأئمة والخطباء هم نماذج نعتز بها،  ولا يعني أن هذا النموذج غير موجود  بالمطلق لذلك وجب تعليق الجرس حتى لا يأخذ البعض منهم الشعور بالغرور والعزة بالإثم والتعاطي مع أبناء الجاليات بفوقية أو بإحتقار لتطلعاتهم وتجاهل لمطالبهم،  مما يتيح الفرصة لهؤلاء المستأسدين أن يراجعوا أنفسهم ويدركوا بأنهم تقدموا الصفوف من أجل خدمة المجتمع وليس من أجل إستغلاله! .

كما أنه قد حان الوقت لأن يكون المجتمع أكثر يقظة وأن يراقب سلوكيات هؤلاء المنحرفين الذين يبتزون مشاعر الناس من أجل ضمان مصالحهم وتسيير أعمالهم وإحتكار الرأي والفكر لخدمة أجنداتهم غير المعلنة حتى لا ندفع نحن المواطنين العاديين ثمن أخطائهم بدون ذنب.

بعض هؤلاء هم أنفسهم الذين يتسللون خلسة إلى مقدمة الصفوف ليقدموا أنفسهم قادة مجتمع من خلال إجادتهم لفن الخطابة مستغلين الفراغ الذي يخلقه أبناء الجاليات لأمثالهم من الذين يتقاسمون الأدوار فيما بينهم للحفاظ على مصالحهم!،  ولكن بالمقابل هم ممن يفتقرون للحد الأدنى من السلوك الحضاري الذي من المفترض أن يرتقي بهم وبالمجتمعات التي يمثلونها، مما يساعد في إفراز مثل ما حصل في حالة هذا الإعتداء الجنسي، بعيداً عن المسائلة والرقابة المجتمعية قبل أن تتطور الحالة لما وصلت إليه من عمل مشين، بل يجب عليهم أن لا يكونوا هم الأكثر قسوة في التعاطي الفوقي مع أبناء جالياتهم وعدم إفساح المجال أمام تحقيق نجاحاتهم والتواصل فيهما بينهم بطريقة فيها مكابرة غريبة، وذلك بطريقة فوضاوية وارتجالية وغير مفهومة، لذلك يجب عليهم أن يتمتعوا بوافر من الحكمة ومساحة أوسع من الوعي وحسن التصرف.

هؤلاء هم أنفسهم الذين يبيعون الوهم لأبنائنا بأنهم يمثلون مجتمع وجاليات ويحرصون على مصالحهم وهم في الحقيقة يفتقرون للحد الأدنى من الشجاعة والوقوف بثبات ومصداقية لنقل هموم وتطلعات وأمال أبناء الجالية بالشكل الصحيح،  حيث يبدون وكأنهم يعبرون عن أفكارهم الذاتية لا أفكار المجتمع، كونهم  لا يستمعون للآخرين ولا يشعرون بآلامهم ولا أوجاعهم ولا حاجتهم،  بل يتذمرون من الحد الأدنى من إنتقاداتهم أو مشاركاتهم بالرأي أو من مطالب خدمة المجتمع منهم، وهم يجيدون فن الخطابة أمام ابناء جاليتهم بالمجموع وليس كفرادى، ولذلك تعجز ألسنتهم عن التعبير أو أخذ زمام المبادرة بالشكل الصحيح عندما يتعلق الأمر بخدمة الفرد في الأماكن والمواضع التي تحتاج هذا الفن من الخطابة للرفع من شأنه ومكانته وما يعكسه ذلك من رفع مكانة المجتمع بأكمله!.

يتعاطون بعقلية أمنية وشللية بغيضة تشكك بكل من هو خارج مظلتهم لا بل تزداد جرأتهم وقاحة وهم يعملون خلسة على عزل الأفراد ممن هم خارج دوائرهم وإفشالهم، وبالمقابل يتحدثون عن أخلاق وعلم وتعاون وغيرها من الفضائل، وهم أول من يمارسون الكذب ويتنكرون لهذه الفضائل ولا يطبقون الحد الأدنى منها!.

هؤلاء من فاقدي المرونة والتحلي بروح المسؤولية، يبدو بأنه لو سنحت لهم الفرصة سيقننون النفس عن ابناء جالياتهم في الوقت الذي يجيدون فيه فن الخطابة وهم ينعمون بالهواء النقي ويتمتعون بملئ الكروش عندما يتحدثون عن الأمل وضرورة السخاء في العطاء حتى لو كان ذلك من خلال تفريغ الجيوب وممارسة الإحتيال!.

أخيراً ، إن فن الخطابة هو موهبة ربانية ويجب تسخيرها لإيصال الأفكار السوية المفيدة التي ترتقي بالمجتمع،  وأن لا  تكون وسيلة للتغطية على السلوكيات القبيحة للوصول إلى غايات وأهداف غير شريفة، حيث أن فن الخطابة ليس فن تشويه الحقائق وتضليل البشر وخداعهم.

فالبرهان بالقول والفعل وليس بالخطابة فقط، بل إن الخطابة هي فن تفيد النفس لإفادة ما ينبغي أن يناسب العقل كوجوب العدل والإنصاف من خلال ممارسة الشفافية، وذلك في الحفاظ على  مصالح الناس وفتح الآفاق فيما بينهم بدون أن يضيق الصدر من مطالبهم، حتى لا تضيق الدنيا في وجوههم، وبالتالي يكفرون بما يسمعون من خطاب جميل لا وجود له إلا في أفواه المتحدثين الذين لا نعرف عنهم شئ في غالب الأحيان ومن هم وما هي خلفياتهم وما هي ثقافتهم وما هي حقيقة أفكارهم في ظل هذه الفوضى الفكرية والسلوكية الناجمة عن التواصل الواسع في عالم المعرفة والإطلاع!.