بين أورويل وستالين.. الرواية في مواجهة الاستبداد!

صالح أمهاوش ..كاتب مغربي

يعتبر جورج أورويل من الكتاب البارزين في القرن العشرين، لفتت كتاباته المميزة أنظار النقاد والقراء عموما، هذا الاسم الذائع الصيت هو في الأصل اسم مستعار جعله أريك بلير مميزا له، عرًّف به نفسه في رواياته الماتعة، وتُشكِل روايتا "مزرعة الحيوان" و"1984" بصمة فريدة في عالم الرواية، عالجت موضوع الاستبداد السياسي في الاتحاد السوفياتي، وبالذات في الفترة الستالينية، استعمل رموزا في سرده، وبالرغم من الترميز الذي استخدمه أورويل، إلا أن الروايتين مُنعتا من التداول في الاتحاد السوفياتي، مؤكدة كل ما تم معالجته في الرواية من نمط الاستبداد في الحكم.

في 1984، ونستون موظف في الوزارة يروي أورويل تفاصيل حياته، يعمل في ظل نظام مستبد يمنع حتى أبسط العلاقات العاطفية بين الموظفين، نظام يرأسه الأخ الأكبر، وقد استعمل أورويل ترميزات وإيحاءات لإخفاء غايته الواضحة من أفكاره، وهي انتقاداته الموجهة بقوة للنظام السوفياتي إبان حكم جوزيف ستالين، كل واحد يعمل ما يلزمه عمله، كأنهم آلات مبرمجة ومحددة الأهداف سلفا، آلات بشرية لا تفكر، لا تحلل، لا يحق له أن تتوقف ولو لبرهة قصيرة للنظر أو التأمل، الجهاز البوليسي هو من يحدد المهام، يقسمها وفق نسق واضح يمنع منعا باتا تجاوزه أو تغييره أو الاجتهاد خارجه أو حتى في إطاره، يضع شعارا بارزا ومنذرا لكل من يفكر في التمرد، لا تحاول فعل شيء، أنت مراقَب من طرفنا، مخبرونا منتشرون في كل مكان يحسبون خطواتك، يقيسون آثار أقدامك.


حاول أورويل من خلال الرواية رصد أدق حيثيات الأجهزة القمعية حتى في تلك التفاصيل التي قد يراها البعض حقوق فطرية للناس لا يجب المساس بها، ويرجع منع الرواية من دخول الاتحاد السوفياتي إلى التقريع الشديد الذي سلطه أورويل على جسد السوفيات، كاشفا وفاضحا لتلك الهالة التي صنعها أنصار الاشتراكية في مختلف بقاع العالم، خصوصا أنصار الستالينية، وقد أمعن أورويل في النقد حد التوغل في العلاقات العاطفية بين الموظفين التي يمنعها النظام المستبد بشدة، إلا أن يكون زواجا ميكانيكيا محضا غير مدفوع بعاطفة "مبيتة"!، تعرف أورويل على موظفة من داخل الوزارة التي يعمل بها، وكانا يلتقيان في سرية تامة للغاية، يقطعان من خلالها عشرات الأمتار مستخدمين أي وسيلة نقل ليتبادلا كلمات الحب ونقاشات أخرى، يجتمعان في مكان بعيد عن أنظار المخبرين، وقد كان يحملان عداء عميقا للنظام، يحرصان، كل الحرص، ألا يفصحان عنه ولو همسا، لأن الجدران لها آذان والأرض لها مِجسات تنقل كل نية تمرد إلى دواليب السلطة.

استمرت علاقتهما في نفس المستوى من السرية الذي حفظاه منذ البداية، لكن النظام يضبطهما متلبسين في حوار بينهما في غرقة مغلقة لم يظنا أنهما سيلقيان حتفهما فيها، بل وجعلهما حبهما الطافح ينسيان أن هناك مراقبة تحجر على الأفكار، ويحكي لنا أورويل فصلا آخرا مريعا من التعذيب الذي لقيه برفقة صديقته، تعذيب يعترفان بكل ما اقترفاه وما لم يقترفاه، تعذيب وحشي لا يليق إلا بنظام مستبد لا تعرف الرحمة سبيلا إليه، لتنتهي فصول الرواية مبرزة شكلا ساديا من أشكال الاستبداد الذي ميّز تاريخ الاتحاد السوفياتي.

في رواية أخرى، يحكي لنا أوريل مستوى آخر من مستويات الاستبداد، في نطاق الثورة والثورة المضادة، لنفس النظام في نفس العهد تقريبا، لكن يصوغها على طريقة كليلة ودمنة، حيوانات في مزرعة، يملكها "مستر جونز" الذي يمثل الإقطاع في شكله المقيت الاستغلالي، فهو يستعمل الحيوانات ويستغلها لتوسيع أرباحه ويهينها ويمعن في إذلالها ويضرِبُها إذا ما أبدت كسلا أو تماطلا، وقد انبنت فكرة الرواية على ثورة الحيوانات على حاكم المزرعة وطرده منها في أفق توسيع الثورة واستكمالها لتشمل بريطانيا الظمى بأكملها، ولما لا الأرض بأسرها للقضاء على حكم البشر الذي أمعن في استغلال الحيوانات على مدى قرون متباعدة، وقد كان الأب الروحي للثورة، الخنزير "ماجور" هو من نبّه إلى هذا الاستغلال الذي حان وقت القضاء عليه، في إطار النظرية الحيوانية التي ستكون بديلا لحكم البشر المتعفن، وأرشدهم إلى الأرضية التي يسيرون عليها لنجاح الثورة واضعا نشيدا خالدا جعلوا منه شعارا للثورة، نأخذها منها كلماتها الأولى:


يا وحوش إنجلترا ... وقطيع إيرلندا العتيد
من صغير وكبير ... وقريب وبعيد
إنها بشرى المنى ... إنه الفجر الجديد 
عن غد يحطم فيه ... الوحش أغلال القيود


وبعد وفاة ماجور، انطلقت الخنازير باعتبارها النخبة المثقفة في المزرعة بالتخطيط للثورة بقيادة كل من الخنزيرين "سنوبول" و"نابليون"، إلى جانب حيوانات أخرى عديدة، كالحصان بوكسر، والمهرة مولي، والفرس كلوفر والعنزة البيضاء موريل، وكذلك الحمار بنيامين، والقطط والكلاب وغيرها مما تعج به المزرعة، بعد نجاح الثورة، وطرد جونز منها في المرة الأولى وفي المرة الثانية أيضا لما فكر الانتقام لنفسه ولمزرعته، انتصرت الحيوانات في المرحلة الأولى لبناء المزرعة والتأسيس لدولة الحيوانات التي ستعيد موازين العدل والحقوق الأساسية لها، بعد أن وضعت 7 وصايا بارزة تؤسس للدولة والتي لا يجب خرقها أبدا، وقد كتبت بخط أبيض ناصع على حائط شديد السواد، نذكر أبرزها أن الإنسان عدو الحيوان إلى الأبد، وأن الحيوانات سواسية لا يظلم بعضها بعضا.

ثم يأتي أورويل في القسم الثاني ليحكي لنا أطوار الثورة المضادة التي هدفت لتحريف الثورة الأولى عن مسارها الذي أسس لها ماجور في أول الأمر، وكان أن انقض "نابليون" على الحكم وطرد سنوبول من المزرعة، ثم بدأ في تعديل الوصايا التي تم وضعها إبان التأسيس، وفي كل مرة يحذف وصية أو يعدل فيها مستعملا القمع والعنف في وجه كل من وسلت له نفسه الاعتراض، وأمعن "نابليون" في تشويه صورة "سنوبول" وجعله مجرما متواطئا مع الإنسان وقد حُكِم عليه بالإعدام غيابيا، رغم ما قدمه سنوبول إلى جانب رفاقه أيام الازمة، وهكذا فقدت الثورة المهيبة قيمتها وبدأت تنحل إلى أن عادت، تقريبا، إلى صورتها الأولى، حيث الإنسان متواجد دوما بالمزرعة في إطار تعاون يتم التبرير له، بجهاز إعلامي يرافق نابليون دوما ويراقب الأوضاع عن كثب تحسبا لأي محاولة تمرد، على أنه ليس تنكرا لوصية ماجور العظيم، إنما هي تعديلات بسيطة لا تؤثر في شيء، حتى الشعار الذي وضعه ماجور تم إلغاؤه بآخر يمجد الزعيم الجديد، ويعاقب كل من يصر على إحيائه.

كانت هذه أبرز المحطات التي عالجها أورويل في روايته الشهيرة الصغيرة الحجم، القوية المبنى والغزيرة المعنى، وإن كل من يعرف ولو من قريب تاريخ الاتحاد السوفياتي سيتأكد بما لا يدع مجالا للشك أن الأمر يخص نظام ستالين الذي تنكر لثورة لينين وحرفها عن مسارها التي بنيت من أجلها، فماجور هو لينين الأب الروحي للثوار الروس والذي وضع اللبنات الأساس لبناء دولة الاتحاد السوفياتي، وسنوبول هو تروتسكي بينما نابليون هو ستالين، تروتسكي أحد أبرز قادة الثورة البلشفية إلى جانب لينين وكان له دور كبير في الحزب الشيوعي، لكن بعد وفاة لينين، سيطر ستالين على الزعامة وبدأ يحرض ضد تروتسكي بعد بروز خلافات حادة بينهما أبرزها جعْل نقابات العمال تحت سيطرة الدولة، الشيء الذي رفضه ستالين، وهكذا بدأت الضغوط تتوالى على تروتسكي ورفاقه حتى اضطره الأمر لمغادرة الاتحاد السوفياتي، فيما تم إعدام رفاقه رغم ما أبانوا عنه من الندم على انتماءاتهم السابقة، أعقبها بعد ذلك الحكم الغيابي بالإعدام باعتباره أحد أكبر الخونة للثورة المجيدة، إلى أن تم اغتياله بالمكسيك على يد عميل سوفياتي قدمته صديقة تروتسكي على أنه صديقها وهي التي كانت مخدوعة فيه، وقد سمي فيما بعد بطل الاتحاد السوفياتي، بعد أن تم إطلاق سراحه بعد مفاوضات بين الاتحاد السوفياتي والمكسيك ليتم ترحيله إلى تشيكوسلوفاكيا الشيوعية وبعدها إلى كوبا ليقضي فيها بقية حياته.

إن الحبكة السردية لرواية "مزرعة الحيوان" ماتعة لدرجة كبيرة، حيث استطاع خلالها أوريل أن يجسد ما وقع في الاتحاد السوفياتي بدقة وعمق يليق بكاتب، في مكان محدود، وبسّط القصة بكل ما تحمله من صراعات إديولوجية وسياسية، ليجعلها في متناول القارئ البسيط ليفهم كيف يتم اغتيال الثورات وتقزيمها خدمة للمصالح الشخصية بالدرجة الأولى، وقد تم التضييق على الرواية في إنجلترا باعتبارها حليفة الاتحاد السوفياتي إبان الحرب العالمية الثانية. ترجمت روايتا "مزرعة الحيوان" و"1984" إلى لغات عديدة نظرا للشهرة الواسعة التي طبعتهما، بفضل طريقة معالجة الموضوع والقدرة الفائقة على السرد والحكي، لتصيرا بذلك من أبرز الأعمال الخالدة لأورويل في مواجهة الاستبداد والطغيان السياسي