اسمحوا لي أن أذرف اليوم دمعة

 

من نافذة الحمّام في إحدى البنايات، كان يصوب قذيفته إلى المكان الذي تجمع فيه الجنود الصهاينة، كانت المسافة بين الموت والقذيفة جزء من الثانية، هو يتربص بهم، ويدقق التصويب كي يفوز بالنصر، والغزاة يتحصنون في إحدى البنايات المقابلة في منطقة الزنة شرق خان يونس، ويصوبون قذائفهم في كل اتجاه، وقبل أن يضغط على الزناد، عبرت إليه القذيفة الإسرائيلية، وتفجرت في وجهه مباشرة؛ ليرتقي حازم فايز أبو شمالة شهيداً.
قبل خمس سنوات، بتاريخ 27/7/2014، في صباح اليوم الأخير من شهر رمضان، كنت أقوم بتحليل وقائع الحرب عبر الفضائيات، وكان لي لقاء مع فضائية الأقصى عبر الهاتف، وطوال فترة اللقاء، كان الهاتف يخبرني عن متصل آخر، حتى إذا أتممت اللقاء، نظرت إلى اسم المتصل، فارتجف قلبي، وجفلت روحي، لقد أدركت أن ابني حازم قد ارتقى، وتأكد ذلك حين سألني المتصل هشام عبر الهاتف: هل سمعت أخباراً عن حازم؟ قلت له: ليرحمه الله، قال: كيف عرفت؟ قلت: من إصرارك على الاتصال في هذا الوقت!
وقبل أن أكمل الحديث، عاودت فضائية الأقصى الاتصال لتسألني: لدينا خبر عاجل، ونحن في حرج من أمرنا، فقد كنت معنا على الهواء قبل دقيقة، قلت لهم: نعم، لقد جاءني الخبر بسرعة قذيفة، وليرحمنا الله برحمة الشهيد حازم!
أغلقت الهاتف، وأغلقت عيوني على الدموع، دموع لا يتحكم بانزلاقها الإنسان، دقيقة واحدة انسكب فيها نهر من الذكريات، ذكريات حازم في بطن أمه، وذكريات الميلاد والرضاعة ودرج الحجل وطفولة الكلمات، ودغدغة الضحكات، وزيارته لي في السجن، وعناد حازم، وزفاف حازم، وأولاده، شريط معبأ بالأحزان يخترق الزمان، ويغتسل في نهر الدموع، التي بللت وجهي وثيابي!
لا يصح ذلك، قلت لنفسي، إياك أن يرى دموعك أحد، فالمعركة على أشدها، والدموع في عز المواجهة ضعف، والتوجع أثناء معركة العض على الأصابع هزيمة، والهزيمة أمنية أعداء المقاومة، فاصلب على قدمين من كبرياء وشموخ، فهذه الطريق خيارنا، لأن البديل هو المذلة والهوان، وعليك أن تكون على مستوى الكلمة التي تنطق بها عبر الفضائيات والإذاعات، كن نموذجاً لآباء الشهداء وأمهاتهم، وللكتاب والسياسيين والصحفيين الذين جسدوا القول بالفعل.
خرجت إلى أولادي وبناتي في البيت، وقلت لهم: أخوكم حازم نال الشهادة التي تمناها، لقد نال ما تمنى، فاصطبروا، وسأخرج مع بقية الأولاد إلى المستشفى كي نتابع الحدث ميدانياً.
في المستشفى، قلت لهم: لا، لن أدخل على حازم الغرفة التي احتضنت جثمانه، لن أنظر إلى وجهه الذي تفجرت فيه القذيفة، لن أشوه الصورة التي أحفظها له في مخيلتي، حين زارني مع زوجته وطفليه في اليوم الأول من شهر رمضان، يومها سألته عن نفسه، وعن نشاطه، وعن امكانية تطور المواجهات، ولأول مرة أوصيته بنفسه، ولمته على ترهل جسده؛ الذي لا يتناسب مع نشاطه في المقاومة.
خرج حازم من البيت لصلاة العشاء مبتسماً، وعاد إلينا مسجى في آخر يوم من شهر رمضان، قضى نحبه صائماً متعبداً صادقاً في انتمائه ومقاومته، مثله كمثل عشرات آلاف الشباب الفلسطيني الذين آمنوا بأن الله اصطفاهم، وأنهم أصحاب الحق، وهذا هو سلاح المقاومة السري الذي لا يقهر، ولا تقدر عليه كل التكنولوجيا والأسلحة الحديثة.
قبل أربعين عاماً، في زمن الاحتلال الإسرائيلي، حين كنت فدائياً، تخيلت نفسي شهيداً، وتخيلت أمي تبكي فراقي، وتردد وسط دموعها الأغنية الفلسطينية الشهيرة: مع السلامة وين رايح، مع السلامة يا عنبر، يا مسك فايح، طلت البارودة، والسبع ما طل، يا بوز البارودة، من دمه مبتل!
ولم أكن أتخيل أنني سأنثر ورد الفراق، وأقول: هنا كان، هنا ابتسم، هنا اختصمنا، وهنا التقينا، هنا غضب، وهنا استكان
هنا حازم، يمد لنا ذراعيه، يعانقنا، يقبلنا، يودعنا، فتخنقنا الدموع، ويستبد بنا الحنان
خمس سنوات يا حازم، كلما ابتعدت عنا كلما اقتربنا منك، وازداد شوقنا إليك
خمس سنوات يا حازم، سكبت عيون القلب وهج بريقها، واستعبدت أيامنا الأحزان.