آخر الأخبار

بريطانيا بين زمنين

بعد تنحّي «تيريزا ماي»، عن رئاسة حزب المحافظين، وفوزه على منافسه «جيرمي هانت»، أصبح «بوريس جونسون»، رئيس وزراء بريطانيا الجديد.
«جونسون»، وزير الخارجية السابق وعمدة لندن الأسبق.. هو حفيد السياسي التركي «علي كمال»، نسخة عن «ترامب»، لا يشبهه في المظهر الغريب وحسب، بل وأيضاً بـ»نهفاته»، وتصريحاته المثيرة للجدل، وبانحيازه الأعمى لإسرائيل، فقد وصف نفسه بأنه «صهيوني حتى النخاع»، ووصف إسرائيل «البلد العظيم الذي يحبه»، وفي تصريح سابق قال: «الإسلام عاد بالعالم الإسلامي قروناً من الزمن إلى الوراء».
كان «جونسون»، قد أُقيل من صحيفة «التايمز» بعد اتهامه بعدم الأمانة في نقل التصريحات، كما فُصل من منصب الناطق باسم حزب المحافظين، بسبب كذبه بشأن علاقاته النسائية، ولكن هذه الفضائح وغيرها لم تقضِ على مستقبله السياسي، مثلما فعلت مع غيره.
وهذا الثنائي الصفيق (ترامب/ جونسون)، بتطرفهما اليميني، وشعبويتهما، وتعصبهما الديني، العنصري، يذكراننا بالثنائي الدموي (هتلر/ موسوليني)، اللذين تسببا بالحرب العالمية الثانية.. وظاهرة بروز القيادات الشعبوية تؤكد أن العالم لم يعد تحت قيادة دولية ناضجة وذات رؤية سياسية، ومسؤولة، بل هو تحت قيادة يمينية رعناء، بل إن جمهور الناخبين لا يقل عنهما جنوناً وتطرفاً.. وإذا أضفنا إليهما «نتنياهو».. سنعلم أننا أمام مستقبل مخيف، سيطال العالم بأسره.
ما أود الإشارة إليه في هذا المقال، التحولات البريطانية الداخلية، التي أفضت إلى انتخاب شخص مضطرب بمواصفات «جونسون»، بعد أن كانت تحت قيادات من وزن تشرشل، وتاتشر.. لذا سأعود إلى كتاب ممتع للأديب «عارف حجاوي»، عنوانه «حبر عتيق».. 
كتب حجاوي: «كان رئيس الوزراء البريطاني «ولنغتون» جنرالاً عسكرياً عظيماً، فهو من هزم نابليون، وعندما انتقل إلى مقر إقامته في 10 دواننغ ستريت (مقر إقامة رؤساء وزراء بريطانيا منذ أكثر من مئتين وسبعين عاماً)، اصطحب معه سريره الحربي الضيق، فسُئل: كيف يتاح لك أن تتقلب على مثل هذا السرير الضيق؟ فأجاب: عندما يحين الوقت للتقلب، يكون الوقت قد حان للنهوض». 
وفي قصة ثانية، كتب حجاوي: «في العام 1924، توجهت «إيشيل ماكدونالد» ابنة زعيم المعارضة البريطاني إلى مقر رئاسة الوزراء، استقبلتها زوجة رئيس الوزراء «بولدوين»، وقالت لها: اليوم سيصبح والدك رئيساً للحكومة، وقد استدعيتك تماشياً مع تقاليد هذا المسكن، حتى أطلعك على الأثاث الموجود، لتعرفي ما هو لك، وما هو للدولة.. وبعد أن طافت «إيشيل» في أرجاء المنزل عرفت أن ما سيتبقى من أثاث قليل، وعادت إلى أبيها لتبلغه، فاكتأب، وقال: إن ما لدينا من أثاث لا يكاد يكفي غرفة واحدة. وفي اليوم التالي عندما قابل «ماكدونالد» الملك جورج الخامس (تحضيراً لحفل التنصيب)، أخبره الملك بضرورة ارتداء بذلة مخصوصة، وقال له: بما أنك لا تملك ثمنها (73 جنيهاً) فبوسعك ارتداء بذلة سموكنغ عادية، أو استئجار واحدة من محلات «موزس» لقاء بنس واحد لليوم.
فعَل معظم وزراؤه نفس الشيء، فقد كانوا من الطبقة الوسطى: وزير المستعمرات كان قبل أسابيع سائقاً لقطار، ووزير الخزانة كان عاملاً في مصنع.
«ماكدونالد» ابن غير شرعي لعامل وخادمة، وكان إذا عـيّره أحد بحقيقة مولده، يقول: أنا أعرف ذلك، فهل يمكننا المضي بالموضوع الجوهري؟ وكان لماكدونالد خمسة أبناء، كانت البنتان الصغريان تغادران 10 دواننغ ستريت، كل صباح، بالزي المدرسي على الأقدام، لتوفير أجرة الحافلة». 
بعد الحرب العالمية الثانية، جرت انتخابات في بريطانيا، حينها كان «تشرشل» واثقاً من الفوز، فهو الذي قاد البلاد إلى النصر، وكان منافسه «كليمنت أتلي» يتوقع هزيمة منكرة.. بيد أن النتائج جاءت مفاجئة (لكنها طبيعية)، فقد اختار الناخبون «أتلي»، بفارق كبير.
عن «أتلي» كتب حجاوي هذه القصة: «خرج أتلي و»لونجفورد» (وزير البحرية) مع زوجتيهما إلى العشاء، فهمس «أتلي» في أذن وزيره بحياء: لا أعرف المطاعم في لندن، هلا اخترت لنا مطعماً، على أن تكون أسعاره معقولة، وبعد العشاء همس في أذنه مرة ثانية: هل لك أن تدفع الحساب، وسأكتب لك صكاً بالمبلغ، فأنا لا أحمل ما يكفي من النقد».. وقد ظل «أتلي» يتوجه من منزله إلى البرلمان في ضاحية «جريت ميسندن» بقطار الأنفاق، دون أن ينتبه الركاب إلى أن جليسهم في المقطورة أقوى رجل في البلاد.
بغض النظر عن سياسات بريطانيا الاستعمارية، بكل قبحها ومساوئها.. المهم أنها كانت تحت قيادة زعامات وازنة، مسؤولة، نزيهة، حريصة على مصلحة البلاد القومية.
بريطانيا اليوم، مثل معظم أوروبا، وحتى الأميركتين.. واقعة تحت نفوذ الدعاية اليمينية الديماغوجية، التي تتخذ من قضية المهاجرين واللاجئين ذريعة لتمرير سياساتها العنصرية، وأيضاً ذريعة «الإسلاموفوبيا»، وخطورة هذه التحولات أننا نشهد تجاذبات وتوترات سياسية، وأزمات اقتصادية، ومشاكل وظواهر اجتماعية على مستوى العالم، تشبه إلى حد كبير الأجواء التي سادت قبيل الحربين العالميتين الأولى والثانية.. فهناك سباق محموم للتسلح، وتنافس إستراتيجي بين أميركا وروسيا على مناطق النفوذ، واشتعال العديد من بؤر التوتر في العالم: الشرق الأوسط، فلسطين، سورية، العراق، الخليج، إيران، كوريا الشمالية، الصراع على حقول الغاز في شرق المتوسط، وعلى طرق إمدادات الطاقة، التهديدات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، وبين تركيا ودول أوروبية، وبوادر أزمة اقتصادية كبرى، ومؤشرات على بدء تفكك الاتحاد الأوروبي، وتفاقم مشاكل اللاجئين، وتحديات الإرهاب.. فضلاً عن الحرب التجارية التي يشنها ترامب على الصين، وعلى المكسيك، وفنزويلا وحتى أوروبا، وردود تلك الدول على الخطوات الأميركية، وإقامتها تكتلات سياسية اقتصادية.
ولفهم المشهد بوضوح أكثر، لنتذكر أن أوروبا لم تعد تلك القارة الفتية، وأميركا بدأت تنسحب من العديد من المنظمات الدولية، وأخذت تغيّر إستراتيجياتها العسكرية، كما بدأت دول مثل الهند والمكسيك والبرازيل وشرق آسيا، وحتى في إفريقيا، بالتحول إلى دول صناعية وقوى اقتصادية عملاقة. وتغيرت التعاملات التجارية بين الدول، خاصة في ظل العولمة. 
في ظل هذا المشهد المعقد يتربع على رأس السلطة (في كل من أميركا وإسرائيل) زعيمان شعبويان دون أي رؤية سياسية، وهما لا يحترمان لا القانون الدولي، ولا الشرعية الدولية، وقد انضم لهما «جونسون»، بنفس العقلية، ومع هذا الثلاثي، ومع كل هذا الظلم الدولي.. العالم ينزلق...
 والله يستر..