الفكــر الإسـلامـي والقيود الأربعـة..بقلم د. وليد القططي

كتب الفيلسوف الانجليزي (فرانسيس بيكون) في القرن السادس عشر الميلادي كتابه الشهير (الأورغانون الجديد) أو المنطق الجديد، في محاولة لإصلاح منهج البحث العلمي، ليكون مرتبطاً بالملاحظة والتجربة، ورأى أن الخطوة التي تسبق ذلك هي إزالة المعوّقات التي تباعد بين الإنسان والحقيقة، وهذه المعوّقات عبارة عن أوهام أشبه بالأصنام حبس الإنسان عقله فيها، لا يُمكن إزالتها إلاّ بتحرر العقل البشري منها، وصنفها بيكون في أربعة أنواع من الأوهام، هي: أوهام القبيلة والكهف والسوق والمسرح. وإذا كانت هذه الأوهام قد تبددت والأصنام قد تحطمت في أوروبا، فسمحت لعصر النهضة والثورة الصناعية والتقدم العلمي بالانطلاق في مختلف المجالات، فإن هذه الأوهام وتلك الأصنام لم تتبدد أو تتحطم في العالم العربي بعد، وإضافةً لها فقد صنعنا أوهاماً خاصة بنا لا زالت تُقيدنا بقضبان الجمود الفكري، وتضع أغلال التعصب المذهبي على عقولنا.

أول هذه القيود الخلط بين الإسلام والفكر الإسلامي. فالفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، الإسلام بمفهومه الواسع هو دين الله تعالى الذي نزلت به كل الرسالات السماوية وبكل اللغات التي يتكلم بها الأنبياء في كل زمان ومكان، وبمفهومه الخاص هو الوحي الإلهي في كتاب الله والسنة النبوية الصحيحة الذي نزل على رسول الله محمد – صلى الله عليه وسلم -. أما الفكر الإسلامي هو فهم علماء المسلمين للإسلام واجتهاداتهم وآرائهم فيما لا نص فيه أو في النص الذي يقبل الاجتهاد وبهذا المعنى للإسلام والفكر الإسلامي، أو للدين والفكر الديني، فإن الدين الإسلامي ينتمي إلى مطلق الصحة، والفكر الإسلامي نسبي الصحة يؤخذ منه ويُترك، والخلط بينهما متعمد يُراد منه إضفاء قداسة على فكر أو مذهب يحتمل الصواب والخطأ. ومن أمثلة ذلك الرأي أو المذهب الذي يعتبر ارتداء المرأة للنقاب المُغطي للوجه قطعي الثبوت والدلالة وكأنه نص ديني مُقدس لا يجوز الخروج عليه أو مخالفته إلى رأي أو اجتهاد آخر كارتداء الحجاب الذي يكشف الوجه واليدين للمرأة، وهذا النمط من التفكير هو من أهم أسباب التكفير الذي يتبعه التقتيل لا محالة.

ثاني هذه القيود هو الخلط بين التاريخ الإسلامي والإسلام، فالتاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام، التاريخ الإسلامي هو وعاء الحياة الإسلامية العملية في تطبيقها للإسلام (القرآن والسنة)، وهذا التطبيق قد ينسجم مع الإسلام بالكامل أو يتناقض معه بالكامل، وبينهما درجات متفاوتة من الانسجام والتناقض. وهذا التاريخ فعل بشري غير معصوم من الخطأ، فالذهاب نحو تمجيد التاريخ الإسلامي لدرجة إضفاء طابع القداسة عليه خطأ، كما أن الذهاب نحو تحقير التاريخ الإسلامي لدرجة إضفاء طابع الدناسة عليه خطأ، والدفاع عن التاريخ الإسلامي وكأنه دفاع عن الإسلام ناتج عن هذا القيد الذي يخلط بين الإسلام والتاريخ الإسلامي. كما أن جعل أحداث التاريخ الإسلامي مصدراً للأحكام الشرعية خاصة في مجال الحكم كإجازة (إمارة التغلب) في الفقه الإسلامي من منطق تبريري رضوخاً للواقع الخطأ تحت مبررات الحفاظ على الدم والاستقرار وخوفاً من الفوضى والفتنة. كما أن الخوف من مناقشة ودراسة أحداث الفتنة الكبرى بين الصحابة خوفاً من تحطيم القداسة المرسومة حول جيل الصحابة رضوان الله عليهم يدخل في إطار هذا القيد الكبير.

ثالث هذه القيود هو قيد (أهل السنة والجماعة) باعتبار المصطلح بديلاً عن مصطلح (الأمة الإسلامية)، فهذا المصطلح ليس له قداسة دينية، ولم يرد في القرآن الكريم أو السنة النبوية، ولم يُستخدم في صدر الإسلام، بل ظهر في عصور متأخرة، ربما في منتصف العصر العباسي، وارتبط ظهوره بالصراعات السياسية على السلطة، والصراعات الفكرية على تمثيل الإسلام. وأُطلق في معناه العام على جمهور المسلمين وغالبيتهم الذين أقروا بخلافة الخُلفاء الراشدين الأربعة، والتزموا بطاعة خلفاء الدولتين الأموية والعباسية ومن بعدهم العثمانية تمييزاً لهم عن الخوارج والشيعة في الدائرة الإسلامية، وفصلاً لهم عن الفرق الضالة المنحرفة خارج الدائرة الإسلامية. أما في المعنى الخاص فقد تنازع على المصطلح مذاهب ومدارس وتيارات شتى داخل الدائرة السنية كالتيار السلفي المرتبط بالمذهب الحنبلي ومدرسة ابن تيمية، والتيارين الأشعري والماتريدي اللذان ارتبطا بالمذاهب الشافعية والحنفية والمالكية في الفقه. وللخروج من هذا القيد لا بد من توسيع مفهوم (أهل السنة والجماعة) ليشمل كل المذاهب الإسلامية أو يتم إستبداله بمفهوم (الأمة الإسلامية) الذي يضم كل المسلمين على اختلاف فرقهم ومذاهبهم وأعراقهم وشعوبهم.

رابع هذه القيود عبارة (لا اجتهاد مع النص) فهذه العبارة صحيحة، ولكن مع النص قطعي الثبوت وقطعي الدلالة ، كقوله تعالى " وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا" فلا مجال للاجتهاد فيها، وقوله عليه الصلاة والسلام " البينة على المدعي، واليمين على من أنكر"، ولكن يجوز الاجتهاد مع النص ظني الثبوت وظني الدلالة أحدهما أو كلاهما، فآيات القرآن الكريم كلها قطعة الثبوت ولكن ليس كلها قطعية الدلالة، فقوله تعالى " وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ" فالقرء يعني الطهر أو الحيض، أما أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم – فقد تكون قطعية أو ظنية الثبوت، وقد تكون قطعة أو ظنية الدلالة. ووفق هذا الفهم لعبارة ( لا اجتهاد مع النص) يمكن القول أن هناك اجتهاد فيما لا نص فيه قياساً على ما فيه نص، وبذلك يكون الفهم الناتج عن الاجتهاد العقلي للنص ليس هو النص بل فهمنا البشري للنص، وبالتالي غير مقدس، وغير مُطلق بل نسبي يقبل الصواب والخطأ ويجوز فيه الاختلاف، وهذه المرونة هي التي تجعل الإسلام صالحاً لكلِ زمان ومكان.

خلاصة الحديث عن القيود الأربعة أن تدرك أن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام؛ بل فهم العقل البشري للإسلام، وأن التاريخ الإسلامي ليس هو الإسلام، بل وعاء الحياة الإسلامية العملية في تطبيقها للإسلام، وأن ما يُعرف بأهل السنة والجماعة ليسوا هم الأمة الإسلامية؛ بل مفهوم ناتج عن الصراعات السياسية والفكرية داخل الأمة، وأن عبارة لا اجتهاد مع النص تنطبق على نوع محدد من النصوص، ولكن هناك نصوص شرعية تقبل الاجتهاد ويجوز فيها الاختلاف ضمن ضوابط شرعية ولغوية محددة. فإذا تخلصنا من هذه القيود الأربعة فإن ذلك يزيل بعض عقبات الجمود الفكري عندنا.